تابع مقدمة ديوان طفولة نهد
إذنْ فما هو الشعر ؟
كلّ ما قيل في هذا الموضوع لا يتعدى دراسة مظاهر التجربة الخارجية
لا التجربة ذاتها ، كما يدرس العالم النفسي نتائج الغضب والانفعال
والسرور على جسد الإنسان ، وكما يدرس علماء الفيزياء آثار التيار
الكهربائي من ضوء وحرارة وحركة .
وجميعُ ما قرأتهُ من نظريات المعنى ، والفكرة ، والصورة ، واللفظ ،
والخيال ، ونسبة كل منها في البيت ، إنما تدرس آثار التجربة الشعرية في
العالم الخارجي ، أي بعد انتقالها من جبين الشاعر إلى الورق .
لا أجرؤ على تحديد جوهر الشعر .. لأنه يهزأ بالحدود . ثم ماذا يضيرُ
الشعر إذا لم نجد له تعريفاً ؟
ألسنا نتقبل أكثرَ الأشياء التي تحيط بنا دون مناقشة ؟ فالروائح ، والألوان
، والأصوات التي يسبحُ كياننا فيها .. تبعثُ اللذة فينا دون أن نعرف شيئاً
عن مادتها وتركيبها . وهل تخسرُ الوردة شيئاًَ من فتنتها إذا جهلنا تاريخَ
حياتها ؟
لنتواضع إذن على القول : إن الشعر كهربة جميلة ، لا تعمر طويلاً ،
تكون النفسُ خلالها بجميع عناصرها من عاطفة ، وخيال ، وذاكرة ،
وغريزةٍ ، مسربلة بالموسيقا
ومتى اكتستِ الهنيهةُ الشعرية ريش النغم ، كان الشعر . فهو بتعبير
موجز ( النفسُ الملحنة ) .
لا تعرف هذه الهنيهة الشاعرة موسماً ولا موعداً مضروباً ، فكأنها فوق
المواسم والمواعيد . وأنا لا أعرف مهنة يجهل صاحبها ماهيتها أكثرَ من
هذه المهنة التي تغزل النار .. ...
والذي أقرره ، أن الشعرَ يصنع نفسهُ بنفسهِ ، وينسج ثوبه بيديه وراء
ستائر النفس ، حتى إذا نمتْ له أسباب الوجود ، واكتسى رداء النغم ،
ارتجف أحرفا تلهثُ على الورق ..
ولقد اقتنعتُ أن جهدي لا يقدِّم ولا يؤخر في ميعاد ولادة القصيدة ، فأنا
على العكس أعيقُ الولادة إذا حاولتُ أن أفعل شيئاً .
كم مرةٍ .. ومرةٍ .. إتخذتُ لنفسي وضعَ من يريد أن ينظم ، وألقيتُ بنفسي
في أحضان مقعدٍ وثير ، وأمسكت بالقلم ، وأحرقت أكثرَ من لفافة .. فلم
يفتح الله عليَّ بحرفٍ واحدٍ . حتى إذا كنتُ أعبرُ الطريق بين ألوف العابرين
، أو كنتُ في حلقة صاخبةٍ من الأصدقاء ، دغدغني ألفُ خاطر أشقر ..
وحملتني ألفُ أرجوحةٍ إلى حيثُ تفنى المسافات .
*
والشعرُ يحيطُ بالوجود كله ، وينطلقُ في كل الاتجاهات ، فترسم ريشته
المليحَ والقبيحَ ، وتتناولُ المترفَ والمبتذلَ ، والرفيع والوضيع . ويخطئ
الذين يظنون أنه خطّ صاعدٌ دائماً ، لأن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفنّ بل مهمة الأديان وعلم الأخلاق . وأنا أؤمن بجمال القبح ، ولذة الألم ،
وطهارةالإثم . فهي كلها أشياء صحيحة في نظر الفنان .
تصوير مخدع موسى ، واردٌ في منطق الفنّ ومعقول ، وهو من أسخى
مواضيع الفنّ وأغزرها ألواناً . أما المومسُ من حيثُ كونها إناءً من الإثم ،
خطأ من أخطاء المجتمع ، فهذا موضوع آخر تعالجه المذاهبُ الاجتماعية
وعلمُ الأخلاق .
يقولُ مروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفنّ : " إن العملَ الفني لا
يمكن فعلاً نفعياً يتجه إلى بلوغ لذة أو استعباد ألم ، لأن الفنّ من حيثُ هو
فنّ لا شأن له بالمنفعة . وقد لوحظ من قديم الأزمان أن الفنّ ليس ناشئاً عن
الإرادة . ولئن كانت الإرادة قوامَ الإنسان الخير ، فليست قوامَ الإنسان الفنان
. فقد تعبرُ الصورة عن فعل يُحمد أو يذم من الناحية الخُلقية ، ولكن
الصورة من حيثُ هي صورة لا يمكن أن تحمد أو تذم من الناحية
الأخلاقية؟ لأنه ليس ثمة حكمٌ أخلاقي يمكن أن يصدر عن عاقل ، ويكون
موضوعه صورة .
" إن الفنان فنان لا أكثر ، أي إنسان يُحبُّ ويعبر ، ليس الفنان من حيثُ
هو فنان عالماً ، ولا فيلسوفاً ولا أخلاقياً . وقد تنصبُّ عليه صفة التخلق
من حيث هو إنسان ، أما من حيث هو فنان خلاق ، فلا نستطيع أن نطلب
إليه إلا شيئاً واحداً ، هو التكافؤ التام بين ما يُنتج وما بشعر به .. ".
لو صح لنا أن نقبل ما زعمته المدرسة الأخلاقية في الفنّ لمات الفنّ
مختنقاً بأبخرة المعابد ، ولوجب أن نحطم كل التماثيل العارية التي نحتها
ميشيل أنجلو ، والصور البارعة التي رسمها رفائيل .. لأنها إثم يجب أن لا
تقعَ فيه العين .
لو ذهبنا مع أشياع هذه المدرسة إلى حيث يريدون ، لوجب أن نُخرج من
حظيرة الجيد قصيدة النابغة التي قالها في زوجة النعمان وقد انزلق مئزرها
عن نهديها .. شابين .. مرتعشين :
سقط النصيفُ ولم تردْ إسقاطهُ
فتناولتهُ واتفقنا باليدِ ...
ولكان علينا أن نلعنَ النابغة ، ونعتبره ضالاً لا يستحق أن نقرأ سيرته
وأشعاره .
*
وبعدُ .. وبعدُ .. ففي يد القارئ حروفٌ دافئة تتحرك على بياض الورق ،
وتتسلق أصابعهُ لتعانق قلبه .
هذه الأحرف لم أكتبها لفئةٍ خاصةٍ من الناس روَّضوا خيالهم على تذوق
الشعر ، وهيأتهم ثقافاتهم لهذا .
لا .. إنني أكتبُ لأي ( إنسان ) مثلي يشترك معي في الإنسانية ، وتوجد
بين خلايا عقله ، خلية تهتزُّ للعاطفة الصافية ، وللواحات المزروعة وراء
مدى الظن ..
أريد أن يكون الفنّ ملكاً لكل الناس كالهواء ، وكالماء ، وكغناء العصافير
، يجب أن لا يُحرم منها أحد .
إذنْ ، يجبُ أن نعممَ الفنّ ، وأن نجعله بعيدَ الشمول . ومتى كان لنا ذلك
استطعنا أن نجلب الجماهير المتهالكة على الشوك ، والطين ، والمادة
الفارغة ، إلى عالم أسوارهُ النجوم ، وأرضه مفروشة بالبريق .
متى جذبنا الجماهير إلى قمتنا ، نبذوا أنانيتهم ، وتخلوا عن شهوة الدم ،
وخلعوا أثواب ردائهم ، وهكذا يغمر السلام الأرض ، وينبت الريحانُ في
مكان الشوك .
إنني أحلمُ ( بالمدينة الشاعرة ) لتكون إلى جانب مدينة الفارابي
(الفاضلة). وحينئذ فقط . يكتشف الإنسانُ نفسه ، ويعرفُ الله ..
وفي سبيل هذه الفلسفة ، فلسفة الغناء العفويّ ، حاولت فيما كتبتُ أن أردَّ
قلبي إلا طفولته ، وأتخير ألفاظاً مبسطة ، مهموسة الرنين ، وأختار من
أوزان الشعر ألطفها على الأذن .
فإذا أحسّ القارئ بأن قلبي صار مكان قلبه ، وانتفض بين أضلاعه هو ،
وأنه يعرفني قبل أن يعرفني ، وأنني صرتُ فماً له وحنجرة ، فلقد أدركتُ
غايتي ، وحققتُ حلمي الأبيض ، وهو أن اجعلَ الشعر يقومُ في كلّ منزل
إلى جانب الخبز والماء ...
نزار قبانى
١٩٤٧
انتهت المقدمة بتمنى تعجبكم وما كون طولت عليكم