الموضوع: نزار قبانى
عرض مشاركة واحدة
قديم 17/11/2006   #358
صبيّة و ست الصبايا maro18
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ maro18
maro18 is offline
 
نورنا ب:
Aug 2005
المطرح:
فى عينيك عنوانى
مشاركات:
2,017

افتراضي


تابع مقدمة ديوان طفولة نهد

إذنْ فما هو الشعر ؟
كلّ ما قيل في هذا الموضوع لا يتعدى دراسة مظاهر التجربة الخارجية
لا التجربة ذاتها ، كما يدرس العالم النفسي نتائج الغضب والانفعال
والسرور على جسد الإنسان ، وكما يدرس علماء الفيزياء آثار التيار
الكهربائي من ضوء وحرارة وحركة .
وجميعُ ما قرأتهُ من نظريات المعنى ، والفكرة ، والصورة ، واللفظ ،
والخيال ، ونسبة كل منها في البيت ، إنما تدرس آثار التجربة الشعرية في
العالم الخارجي ، أي بعد انتقالها من جبين الشاعر إلى الورق .
لا أجرؤ على تحديد جوهر الشعر .. لأنه يهزأ بالحدود . ثم ماذا يضيرُ
الشعر إذا لم نجد له تعريفاً ؟
ألسنا نتقبل أكثرَ الأشياء التي تحيط بنا دون مناقشة ؟ فالروائح ، والألوان
، والأصوات التي يسبحُ كياننا فيها .. تبعثُ اللذة فينا دون أن نعرف شيئاً
عن مادتها وتركيبها . وهل تخسرُ الوردة شيئاًَ من فتنتها إذا جهلنا تاريخَ
حياتها ؟
لنتواضع إذن على القول : إن الشعر كهربة جميلة ، لا تعمر طويلاً ،
تكون النفسُ خلالها بجميع عناصرها من عاطفة ، وخيال ، وذاكرة ،
وغريزةٍ ، مسربلة بالموسيقا
ومتى اكتستِ الهنيهةُ الشعرية ريش النغم ، كان الشعر . فهو بتعبير

موجز ( النفسُ الملحنة ) .
لا تعرف هذه الهنيهة الشاعرة موسماً ولا موعداً مضروباً ، فكأنها فوق
المواسم والمواعيد . وأنا لا أعرف مهنة يجهل صاحبها ماهيتها أكثرَ من
هذه المهنة التي تغزل النار .. ...
والذي أقرره ، أن الشعرَ يصنع نفسهُ بنفسهِ ، وينسج ثوبه بيديه وراء
ستائر النفس ، حتى إذا نمتْ له أسباب الوجود ، واكتسى رداء النغم ،
ارتجف أحرفا تلهثُ على الورق ..
ولقد اقتنعتُ أن جهدي لا يقدِّم ولا يؤخر في ميعاد ولادة القصيدة ، فأنا
على العكس أعيقُ الولادة إذا حاولتُ أن أفعل شيئاً .
كم مرةٍ .. ومرةٍ .. إتخذتُ لنفسي وضعَ من يريد أن ينظم ، وألقيتُ بنفسي
في أحضان مقعدٍ وثير ، وأمسكت بالقلم ، وأحرقت أكثرَ من لفافة .. فلم
يفتح الله عليَّ بحرفٍ واحدٍ . حتى إذا كنتُ أعبرُ الطريق بين ألوف العابرين
، أو كنتُ في حلقة صاخبةٍ من الأصدقاء ، دغدغني ألفُ خاطر أشقر ..
وحملتني ألفُ أرجوحةٍ إلى حيثُ تفنى المسافات .
*
والشعرُ يحيطُ بالوجود كله ، وينطلقُ في كل الاتجاهات ، فترسم ريشته
المليحَ والقبيحَ ، وتتناولُ المترفَ والمبتذلَ ، والرفيع والوضيع . ويخطئ
الذين يظنون أنه خطّ صاعدٌ دائماً ، لأن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفنّ بل مهمة الأديان وعلم الأخلاق . وأنا أؤمن بجمال القبح ، ولذة الألم ،
وطهارةالإثم . فهي كلها أشياء صحيحة في نظر الفنان .
تصوير مخدع موسى ، واردٌ في منطق الفنّ ومعقول ، وهو من أسخى
مواضيع الفنّ وأغزرها ألواناً . أما المومسُ من حيثُ كونها إناءً من الإثم ،
خطأ من أخطاء المجتمع ، فهذا موضوع آخر تعالجه المذاهبُ الاجتماعية
وعلمُ الأخلاق .
يقولُ مروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفنّ : " إن العملَ الفني لا
يمكن فعلاً نفعياً يتجه إلى بلوغ لذة أو استعباد ألم ، لأن الفنّ من حيثُ هو
فنّ لا شأن له بالمنفعة . وقد لوحظ من قديم الأزمان أن الفنّ ليس ناشئاً عن
الإرادة . ولئن كانت الإرادة قوامَ الإنسان الخير ، فليست قوامَ الإنسان الفنان
. فقد تعبرُ الصورة عن فعل يُحمد أو يذم من الناحية الخُلقية ، ولكن
الصورة من حيثُ هي صورة لا يمكن أن تحمد أو تذم من الناحية
الأخلاقية؟ لأنه ليس ثمة حكمٌ أخلاقي يمكن أن يصدر عن عاقل ، ويكون
موضوعه صورة .
" إن الفنان فنان لا أكثر ، أي إنسان يُحبُّ ويعبر ، ليس الفنان من حيثُ
هو فنان عالماً ، ولا فيلسوفاً ولا أخلاقياً . وقد تنصبُّ عليه صفة التخلق
من حيث هو إنسان ، أما من حيث هو فنان خلاق ، فلا نستطيع أن نطلب
إليه إلا شيئاً واحداً ، هو التكافؤ التام بين ما يُنتج وما بشعر به .. ".
لو صح لنا أن نقبل ما زعمته المدرسة الأخلاقية في الفنّ لمات الفنّ
مختنقاً بأبخرة المعابد ، ولوجب أن نحطم كل التماثيل العارية التي نحتها
ميشيل أنجلو ، والصور البارعة التي رسمها رفائيل .. لأنها إثم يجب أن لا
تقعَ فيه العين .
لو ذهبنا مع أشياع هذه المدرسة إلى حيث يريدون ، لوجب أن نُخرج من
حظيرة الجيد قصيدة النابغة التي قالها في زوجة النعمان وقد انزلق مئزرها
عن نهديها .. شابين .. مرتعشين :
سقط النصيفُ ولم تردْ إسقاطهُ
فتناولتهُ واتفقنا باليدِ ...
ولكان علينا أن نلعنَ النابغة ، ونعتبره ضالاً لا يستحق أن نقرأ سيرته
وأشعاره .
*
وبعدُ .. وبعدُ .. ففي يد القارئ حروفٌ دافئة تتحرك على بياض الورق ،
وتتسلق أصابعهُ لتعانق قلبه .
هذه الأحرف لم أكتبها لفئةٍ خاصةٍ من الناس روَّضوا خيالهم على تذوق
الشعر ، وهيأتهم ثقافاتهم لهذا .
لا .. إنني أكتبُ لأي ( إنسان ) مثلي يشترك معي في الإنسانية ، وتوجد
بين خلايا عقله ، خلية تهتزُّ للعاطفة الصافية ، وللواحات المزروعة وراء
مدى الظن ..
أريد أن يكون الفنّ ملكاً لكل الناس كالهواء ، وكالماء ، وكغناء العصافير
، يجب أن لا يُحرم منها أحد .
إذنْ ، يجبُ أن نعممَ الفنّ ، وأن نجعله بعيدَ الشمول . ومتى كان لنا ذلك
استطعنا أن نجلب الجماهير المتهالكة على الشوك ، والطين ، والمادة
الفارغة ، إلى عالم أسوارهُ النجوم ، وأرضه مفروشة بالبريق .
متى جذبنا الجماهير إلى قمتنا ، نبذوا أنانيتهم ، وتخلوا عن شهوة الدم ،
وخلعوا أثواب ردائهم ، وهكذا يغمر السلام الأرض ، وينبت الريحانُ في
مكان الشوك .
إنني أحلمُ ( بالمدينة الشاعرة ) لتكون إلى جانب مدينة الفارابي
(الفاضلة). وحينئذ فقط . يكتشف الإنسانُ نفسه ، ويعرفُ الله ..
وفي سبيل هذه الفلسفة ، فلسفة الغناء العفويّ ، حاولت فيما كتبتُ أن أردَّ
قلبي إلا طفولته ، وأتخير ألفاظاً مبسطة ، مهموسة الرنين ، وأختار من
أوزان الشعر ألطفها على الأذن .
فإذا أحسّ القارئ بأن قلبي صار مكان قلبه ، وانتفض بين أضلاعه هو ،
وأنه يعرفني قبل أن يعرفني ، وأنني صرتُ فماً له وحنجرة ، فلقد أدركتُ
غايتي ، وحققتُ حلمي الأبيض ، وهو أن اجعلَ الشعر يقومُ في كلّ منزل
إلى جانب الخبز والماء ...


نزار قبانى
١٩٤٧

انتهت المقدمة بتمنى تعجبكم وما كون طولت عليكم


ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك!
اذا كان احد قد اعترض طريقنا فمن المحتمل ان نكون نحن قد اعترضنا طريق شخص ما.
فأنا التى اخترت منذ البداية ان اخسر العالم كله على أمل ان اربح نفسى.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06095 seconds with 10 queries