تابع مقدمة ديوان طفولة نهد
إذنْ فكل أثر فني يجب أن يُسْتقبل عن طريق ( الإدراك الحدسي ) لا (
المنطقي ) أو ( الذهني ) ، لأن هذا النوع الأخير من الإدراك ميدانه العلم والظواهر المادية.
يقول آروتشه :
" .. على الناقد أن يقفَ أمام مبدعات الفنّ موقفَ المتعبد لا موقف
القاضي ، ولا موقفَ الناصح ، وما الناقدُ إلا فنانٌ آخر يُحسُّ ما أحسه الفنان
الأول فيعيش حدسهُ مرة ثانية ، ولا يختلف عنه إلا في أنه يعيش بصورةٍ
واعيةٍ ما عاشه الفنان بصورة غير واعيةٍ .. ".
ومتى تم انتقال هذه السيَّالة الدافئة من الأصباغ ، والنغم ، والغريزة والإنفعال .. إليكَ ، تنتهي مهمةُ الشعر ، فهو ليس أكثر من (كهربةٍ جميلة)
تصدم عصبك ، وتنقلك إلى واحاتٍ مضيئة مزروعة على أجفان السحاب .
*
مهمة القصيدة كمهمةِ الفراشة .. هذه تضعُ على فم الزهرة دفعة واحدة
جميعَ ما جنتهُ من عطر ورحيق ، منتقلة بين الجبل والحقل والسياج ..
وتلك – أي القصيدة – تفرغُ في قلب القارئ شحنة من الطاقة الروحية
تحتوي على جميع أجزاء النفس ، وتنتظمُ الحياة كلها .
يجب أن لا نطلب من الشعر أكثرَ من هذا . ويتجنى على الشعر الذين
يريدون منه أن يغلَّ غلة ، ويُنتج ريعاً . فهو زينة وتحفة باذخة فحسب ..
كآنية الورد التي تستريح على منضدتي ، لستُ أرجو منها أكثرَ من صحبة الاناقة .. وصداقة العطر..
لذلك نشأتُ على كره عنيد للشعر الذي يُرادُ من نظمه إقامة ملجأ .. أو
بناءُ تكيَّة .. أو حصرُ قواعد اللغة العربية ، أو تأريخُ ميلاد صبي ، أو
تعدادُ مآثر الميت على رخامة قبره .
قرأتُ في طفولتي تعاريفَ كثيرة للشعر ، وأهزلُ هذه التعاريف " الشعر
هو الكلامُ الموزونُ المُقَفَّى ".
أليس من المخجل أن يلقن المعلمون العرب تلاميذهم في هذا العصر ،
عصر فلق الذرة ، ومراودةِ القمر ، مثل هذه الأكذوبة البلهاء ؟
ماذا تقول للشاعر ، هذا الرجل الذي يحمل بين رئتيه قلبَ الله ،
ويضطربُ على أصابعه الجحيم ، وكيف نعتذر لهذا الإنسان الإله الذي
تداعب أشواقه النجوم ، وتفزع تنهداته الليل ، ويتكئ على مخدته الصباح ،
كيف نعتذر له بعد أن نقول له عن قصيدته التي حبكها من وهج شرايينه ،
ونسجها من ريش أهدابه " إنها كلام " !.
وكلمة ( كلام ) هذه .. تقفُ في قلبي يابسة كالشوكة ، لأن ما يدور بين
الباعة على رصيف الشارع هو آلام . والضجة التي ترتفع في سوق
البورصة هي مجموعة من الكلام الموزون .. أيضاً .
فهل الشعرُ عند سادتنا العروضيون هو هذا النوع من الكلام ، دون أن
يكون ثمة فرقٌ بين كلام ( ممتاز ) وكلام ( رخيص ) ؟
ويقالُ في تعريف ثانٍ للشعر إنه تصوير للطبيعة . وأنا أقولُ إن الفن هو
صنع الطبيعة مرة ثانية ، على صورة أكمل ، نسق أروع .
الطبيعة وحدها ، فقيرة ، عاجزة ، مقيدة بأبدية القوانين المفروضة عليها
هذه الزهرة تنبت في شهر كذا .. وهذا النبع يتفجر إذا انعقدت السحبُ مطراً
، وهذا النوعُ من العصافير يرحل عن البيادر في أوائل الشتاء .
أما في الفنّ فإنك تشمُّ رائحة الأعشاب لمجرد تصفحك ديوانَ ابن زيدون
، وإنك لتستطيع أن تستمع إلى وشوشة الينابيع وأنتَ أمام الموقد ، تقرأ ما
كتب البحتريُّ واين المعتزّ .
أستطيع في أي موسم أن أغلق نافذتي ، وأمد يدي إلى مكتبي لأنعم بالورد
والماء وبالعطر وبزقزقة العصافير المغنية ، وهي تتفجر من دواوين
المتنبي ، وبولدير ، وبول فيرلين ، وأبي نواس ، وبشار ، فتُحيلُ مخدعي
إلى مزرعةٍ يصلي على ترابها الضوء والعبير .
الوردةُ الحمراءُ على الرابية تموت . ولكن الوردةَ المزروعة في قصيدة
فلان لا تزال توزع عطرها على الناس وتقطّر دمعها على أصابعهم .
يتبع
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك!
اذا كان احد قد اعترض طريقنا فمن المحتمل ان نكون نحن قد اعترضنا طريق شخص ما.
فأنا التى اخترت منذ البداية ان اخسر العالم كله على أمل ان اربح نفسى.
|