لقد قسا ابن خلدون على العرب - في رأي الكثيرين من القوميين – قسوة كبيرة حين رمى العرب بطبيعة التوحش، وأنهم لا يتغلبون إلا على البسائط كقوله : " إنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث (الافساد). ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر." (ص 197).
كذلك سخط العرب المحدثون على ابن خلدون إلى الحد الذي دفع بعض السلطات التربوية والتعليمية في العالم العربي إلى حذف كل ما قاله وكتبه ابن خلدون من مناهجها، وعدم تدريس آثاره في مدارسها ومعاهدها. وتطبيق الحظر عليه كما هو الحال بالنسبة لماركس ودارون وفرويد من المحظورين. وزاد من نقمة هؤلاء العرب عندما اقرَّ واعترف ابن خلدون أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع اليها الخراب، وقوله الصريح في هذا : "والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم. فصار لهم خلقاً وجبلة. وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب (الانتقال)، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فطبيعتهم انتهاب ما في ايدي الناس. وأن رزقهم في ظلال رماحهم." (ص19. وذلك طبقاً للحديث النبوي: (جُعل رزقي تحت ظلال رمحي.)
ولو قرأ السياسيون الغربيون وعلى رأسهم الرئيس بوش رسالة ابن خلدون في طبيعة العرب لفكّر ألف مرة قبل أن يفعل ما فعله بالعراق. خاصة عندما يقول ابن خلدون:
"العرب متنافسون في الرياسة. وقل أن يُسلّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض." (ص 19
هذا ما كان من حال العرب قبل ستة قرون، فماذا تغير الآن؟
-6-
هل كانت آراء ابن خلدون في العرب على هذا النحو من الصراحة والشجاعة وقوة المنطق وعقلانية التفكير، سبباُ في شهرته في الغرب هذه الشهرة المدوية، واشادة المستشرقين به، وانكبابهم على دراسة آثاره، وتتبع مسارات تفكيره، مما دفع مستشرقاً كالمستشرق ليفي بروفنسال ليقول: "إن صفات العبقرية عند ابن خلدون تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية، مما جعله في مسار يثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين" ؟
إن أهم ما قدمه لنا ابن خلدون نحن العرب، هو أنه كان أول من نقد الذات العربية نقداً علمياً وتاريخياً وواقعياً. فمن هنا نبدأ. ولم يجرؤ مؤرخ من أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم على دراسة التاريخ العربي بعمق وبنظرة نقدية فارزة، كما فعل ابن خلدون. فمثل هؤلاء المؤرخين كانوا يسجلون الوقائع فقط، مثلهم مثل كُتّاب الأرشيف. فهم لا يقدمون لنا أكثر مما هو واقع. في حين كان ابن خلدون يقدم لنا ما وراء الواقع، وهو ما لم يقدر عليه المؤرخون الآخرون. وقد شرح ابن خلدون منهجه الاستقرائي والاستنتاجي والتحليلي هذا في كتابة التاريخ العربي بقوله:
" فأنشأتُ في التاريخ كتاباً، وأبديتُ فيه لأولية الدول عملاً وأسباباً. وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعتُه من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً، وشرحت من أحوال التمدن والعمران، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يُمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها."
وبهذا سبق ابن خلدون الفيلسوف كانت Kentفي ارساء نظرية التفكير النقدي الهادف للتاريخ والحضارة. وهذه النظرية هي لبُ النقد الذاتي، الذي نحن بحاجة اليه الآن، والذي بدأه ابن خلدون منذ ستة قرون، وتابعه ابن رشد وابن الهيثم. ثم انقطع في عصور الانحطاط، وعاد الآن من جديد على أيدي المفكرين الليبراليين العرب. ولكن من قاموا بالنقد الذاتي المتواضع حتى الآن يُكفّرون، ويُنبذون، ويُحاربون، ويُتهمون بأنهم يناصرون الغرب وسياسة الغرب وعدوان الغرب وبأنهم جالدو الذات الذي لا يكفون عن جلد الذات العربية ارضاءً لأسيادهم في الغرب!
-7-
من خلال هذه اللُمع الخلدونية يمكن أن نفهم العرب قبل ستمائة سنة، وكذلك الآن . فالحال لم يتغير، بعد مضي ستة قرون. ولو قرأ جورج بوش رسالة ابن خلدون في العرب قبل ستمائة سنة، وطبقها على واقع العرب الآن لما قام بحملته العسكرية على العراق 2003 ، ولعلم أن العالم العربي كله مستنقع، وليس العراق فقط. وعليه أولاً أن يطلب من علماء وخبراء الزراعة أنجع الطرق لتجفيف هذا المستنقع أولاً ، ومعالجته وتنظيفه، من كل أوساخه وقذاراته وفضلاته، قبل أن يضع قدمه فيه، وقبل أن يخطو فيه خطوة واحدة.
السلام عليكم.
لا صراع حضارات بل صراع كيانات سياسية فالثقافات
لا تتناحر وإنما تتفاعل.....والحضارات لا تتصادم وانما تتلاقح.
......understood seek first to understand then to be