فلو صدر عن أي فرد عادي جزء بسيط من المعلومات التي نشرها أو سرّبها السيد ميليس لحوكم بجريمة إعاقة مجرى العدالة. وليس أدلّ على مخالفة السيد ميليس مبادئ وأصول جوهرية في التحقيق الجنائي من عمل السيد براميرتس الذي خلفه في ترؤس لجنة التحقيق الدولية. فطريقة إجراء التحقيقات وكتابة التقارير التي يضعها السيد براميرتس هي إدانة واضحة لما قام به سلفه. فسرية التحقيق أضحت مصانة ولم نعد نسمع أو نقرأ في تقارير لجنة التحقيق الدولية عن أسماء وإفادات الشهود والمتهمين، وأضحت الاستنتاجات رهينة انتهاء التحقيق. إن عمل السيد ميليس كان ذا أهداف سياسية بامتياز. فهدف تقاريره واستنتاجاته المبكرة كان استعمالها لاستصدار قرارات عن مجلس الأمن الدولي هدفها سياسي في جوهره وهذا ما حصل.
بعد مرور سنة ونصف سنة على بدء التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، والتحقيق هو المرحلة الأهمّ في كشف الفاعلين ومعرفة الحقيقة وهو الموضوع الأساسي لكل محاكمة مقبلة، لم يعرف حتى الآن من الجاني ولم يصدر في حق أي فرد، بمن فيهم الضباط الذين لا يزالون موقوفين على ذمة التحقيق، أي قرار بالاتهام أو الظن. ولكن قبل تعيين متهم يمكن إحالته على المحاكمة تتسارع الأحداث وتزداد الضغوط من أجل إقامة محكمة دولية خاصة تحلّ محل السلطات اللبنانية في كل ما يتعلّق بإدارة إجراءات التحقيق والمحاكمة وتنتزع من السلطات اللبنانية ما حفظه قرار مجلس الأمن الرقم 1595 لها من سيادة في هذا الشأن. فما هي طبيعة هذه المحكمة وخصائصها؟
الاستئثار في تطبيق القوانين الجزائية من الدول كان ولا يزال رمزاً مهماً من رموز السيادة الوطنية. يمكن مثلاً أن تحدد قواعد القانون الدولي الخاص في دولة ما تطبيق قوانين دولة أخرى على بعض العقود والمعاملات الخاصة وكذلك تنفيذ أحكام صادرة عن محاكم دول أخرى في شؤون القضايا المدنية والتجارية، لكن من غير المألوف أن تقبل دولة أن تطبق على أراضيها قوانين تتعلق بالشأن العام، وخاصة القوانين الجزائية أو تنفيذ أحكام صادرة في هذا الشأن عن غير المحاكم الوطنية. لكنّ الفظائع والمآسي التي خلّفتها جرائم الحرب والابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية، التي مكّن التطور التكنولوجي المجتمع البشري من معايشتها، جعلت من ايجاد مرجع قضائي فعّال على المستوى العالمي للحدّ من هذه الجرائم ضرورة ملحّة عبّرت عنها الجمعية العمومية للأمم المتحدة منذ عام 1948. لكنّ رغبة المجتمع الدولي هذه لم تترجم الى واقع حتى عام 1998 مع توقيع اتفاقية روما المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية التي مركزها في لاهاي.
لكن العالم شهد قيام عدة محاكم جنائية وخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فمحاكم نورمبرغ وطوكيو أقامها الحلفاء لمحاكمة القادة الألمان واليابانيين الذين اعتبروهم مسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت إبّان الحرب العالمية الثانية. ولم تسلم هذه المحاكم من النقد على أساس أنها كانت محاكم أقامها الغالب لمحاكمة المغلوب. وقد أنشأ مجلس الأمن الدولي محاكم جنائية خاصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي إثر الفظائع التي رافقت تفكّك يوغوسلافيا وتلك التي ارتكبت في بوروندي نتيجة حرب أهلية. وكان القانون الذي يطبق في هذه المحاكم هو القانون الدولي والقضاة هم من رعايا دول أجنبية. لم تحقق هذه المحاكم الهدف المرجو منها إن لجهة السرعة في التحقيق وإن لجهة البتّ بالدعاوى وإن لجهة الكلفة المادية وإن لجهة الأثر الايجابي في الذين عانوا من الجرائم ومرتكبيها. وقد عمد مجلس الأمن الدولي الى إنشاء محاكم وصفت بالهجينة لأنها ضمّت قضاة محليين، إضافة الى قضاة أجانب للنظر في الجرائم التي وقعت في سيراليون وكوسوفو وكمبوديا وغيرها.
إن ما يميز المحكمة الخاصة بلبنان عن سواها من المحاكم الجنائية الأخرى ذات الطابع الدولي هو أنها الوحيدة التي أُنشئت لمعالجة جريمة قتل سياسية وصفت بالعمل الارهابي لكي يكون لمجلس الأمن الدولي مبرر التدخل إن في التحقيق وإن في إقامة المحكمة. ولن يكون على المحكمة الخاصة النظر في أية تهمة أو جريمة من أجلها أنشئت محاكم جنايات دولية. فخلافاً للمحاكم الدولية الأخرى لن تنظر المحكمة في جرائم تعتبر عادة جرائم ضد القانون الدولي كجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية. وفي ما يتعلّق بجريمة الارهاب التي تتكرر بسخاء وغزارة في قرارات مجلس الأمن فليس هناك تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذه الجريمة أو عقاب معيّن لها. وليس هناك سابقة لمحكمة دولية أن نظرت في جريمة وصفت بأنها عمل إرهابي. لذلك لا مناص من تطبيق القانون اللبناني على جريمة هي في الأساس من اختصاص القضاء اللبناني. وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من مسودة النظام الأساسي للمحكمة العتيدة