اقترن اسم ابن النفيس باكتشافه الدورة الدموية الصغرى، أو دوران الدم الرئوي، التي سجّلها في كتابه "شرح تشريح القانون" لابن سينا، وقبل العالم الطبيب الإنجليزي هارفي المتوفى (سنة 1068 هـ /1657م)، الذي بحث في دورة الدم بعد ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف من وفاة ابن النفيس، وظلَّ الناس يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة محي الدين التطاوي في رسالته العلمية.
وقد أثار ما كتبه التطاوي اهتمام الباحثين، وفي مقدمتهم "مايرهوف" المستشرق الألماني، الذي كتب في أحد بحوثه عن ابن النفيس: "إن ما أذهلني هو مشابهة، لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سرفيتوس* لأقوال ابن سينا التي ترجمت ترجمة حرفية؛ ولما اطَّلع "الدوميلي" على المتنين قال: "إنّ لابن النفيس وصفاً للدوران الصغير تطابق كلماته كلمات سرفيتوس تماماً، وهكذا فمن الحق أن يعزى كشف الدوران الرئيس إلى ابن النفيس لا إلى "سرفيتوس أو هارفي".
غير أن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى هي واحدة من إسهاماته العديدة، بل يعزى إليه أنه اكتشف الدورتين الصغرى والكبرى للدورة الدموية، ووضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية، وكشف العديد من الحقائق التشريحية، وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقدّم للعلم قواعد للبحث العلمي وتصوّرات للمنهج العلمي التجريـبي.
وابن النفيس هو أوَّل من طالب مرضاه بضرورة الاعتدال في تناول الملح، وقدّم أدق الأوصاف لأخطار الملح، وأثره على ارتفاع الضغط، كما أنه أبدع في تشريح الحنجرة وجهاز التنفس والشرايين وبيّن وظائفها.
أما عن تشريح ابن النفيس جثة الإنسان، فقد دار الجدل حولها، وظهرت في الأفق وجهات نظر ثلاث:
الفريق الأول: ينكر قيام ابن النفيس والعلماء العرب المسلمين بأي عمل تشريحي كان، ومن هذا الرأي ماكس مايرهوف(1874ـ1954) الذي يقول: "كانت الشريعة الإسلامية في أوَّل ظهورها تبيح دراسة العلوم إطلاقاً، ويمكننا القول منذ أن ظهر المعلم الديني الشهير الغزالي (1111م) فصاعداً، حلَّ الاضطهاد الديني لهذه الدراسات محل السماح بها، بزعم أنها تؤدي إلى الشك في الاعتقاد بأصل العالم بوجود الخلاّق"، ولكنه يعود فيعترف بأنه: "إن لم يكن هذا الموقف كافياً لمنع ظهور علماء مفكِّرين أحرار، فمما لا شك فيه، أنها كانت عاملاً مهماً جداً في خنق أصوات أولئك المفكرين".
أما الفريق الثاني: أمثال الدكتور الأستاذ عبد الكريم شحادة، والدكتور أمين سعد خير الله، فيقول: "إن ابن النفيس قد شرّح، ولكن شرّح الحيوان فقط". كما فعل جالينوس.
أما الفريق الثالث، ومنهم الدكتور سليمان قطاية، والدكتور حداد، فيعتقدون أن ابن النفيس شرّح جثة الإنسان، ويعزز هذا الفريق رأيه بالقول بمشروعية تشريح جثة الإنسان، ويعزي سيادة فكرة تحريم تشريح جثة الإنسان إلى الموروثات الشعبية العامية النابعة من الاحترام الشديد للأجداد وللموتى، ولا علاقة لها بالدين الحنيف. وهذا ما تطرَّقت إليه المناقشات بين كلوت بك Kloot Bek طبيب محمد علي الكبير الذي أنشأ مدرسة أبي زعبل الطبية، فأراد تشريح الجثث لتعليم الطلاب، فاعترض عليه البعض، فذهب إلى أكبر علماء الدين في ذلك الوقت الشيخ العروسي، فحصل على موافقته الخفية لتدريس التشريح، وأخذ عهداً منه على أن لا يفعل ذلك إلا باحتراس وسرية، وذلك "خيفة الاصطدام بمعتقدات قديمة". وإلى هذا المعنى ذهب ابن النفيس، وقال في مقدمة كتابه "شرح التشريح": "وقد صدَّنا عن مباشرة التشريح وازع الشريعة، وما في أخلاقنا من رحمة".
وهذا الكلام رآه الدكتور سليمان قطاية دليلاً على قيام ابن النفيس بالتشريح، حيث يقول: من المعروف أن المؤلف يكتب مقدمة كتابه بعد الانتهاء من تأليفه، ولربما لاحظ ابن النفيس أن ما جاء في كتابه كان دليلاً على مزاولته التشريح، فوجد أنه من الأفضل والأنسب أن ينفي عنه التهمة من البداية، فكتب هذه الجملة، خاصة أن القلائل هم الذين سيقرأون الكلام برمّته، لأن النسخ منه قليلة.
ولقد استند "مايرهوف" "وشاخت" وغيرهما على هذه الجملة لنفي قيام ابن النفيس بالتشريح إطلاقاً.
مؤلّفات ابن النفيس
لابن النفيس مؤلّفات كثيرة نشر بعضها وما يزال بعضها الآخر حبيس رفوف المخطوطات لم ير النور بعد، من هذه المؤلّفات:
شرح فصول أبقراط، والمهذَّب في الكحل المجرَّب، الموجز في الطبّ، شرح تشريح القانون وهو من أهمِّ الكتب، وتبرز قيمته في وصفه للدورة الدموية الصغرى، واكتشافه أنَّ عضلات القلب تتغذى من الأوعية المبثوثة في داخلها لا من الدم الموجود في جوفه. ويظهر في الكتاب ثقة ابن النفيس في علمه؛ حيث نقض كلام أعظم طبيبين عرفهما العرب في ذلك الوقت، وهما: جالينوس، وابن سينا، غير أن أعظم مؤلَّفاته تتمثل في موسوعته الكبيرة المعروفة بـ"الشامل في الصناعة الطبية".
وكان ابن النفيس قد وضع مسودات موسوعته في ثلاثمائة مجلَّد، بيّض منها ثمانين، وهي تمثِّل خلاصة الجهود العلمية للمسلمين في الطب والصيدلة لخمسة قرون من العمل المتواصل. وقد وضعها ابن النفيس لتكون نبراسًا ودليلاً لمن يشتغل بالعلوم الطبية.
كان ابن النفيس إلى جانب نبوغه في الطب فيلسوفًا وعالمًا بالتاريخ وفقيهاً ولغويًا، له مؤلّفات في اللغة والنحو، حتى كان ابن النحّاس العالم اللغوي المعروف لا يرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس، وكان يقضي معظم وقته في عمله أو في التأليف والتصنيف أو في تعليم طلابه.
كتاباته الإسلامية:
اهتمَّ ابن النفيس، شأنه شأن الكتّاب المسلمين وعلمائهم، بالعلوم الإسلامية، كالسير والأحاديث، وقد بقي من كتبه التي قيل عنها إنها كانت كثيرة، كتاب في سيرة الرسول(ص) تحت عنوان: "الرسالة الكاملية في السيرة المحمدية" وكتاب آخر في أصول الحديث تحت عنوان: "مختصر في علم أصول الحديث".
وله رسالة في علم الكلام عارض فيها كتاب أبو حيّان التوحيدي "حيّ بن يقظان"، وهذه الرسالة تحت عنوان "فاضل بن ناطق".
كما كتب ابن النفيس كتباً في الفقه، ولكنها كانت شرحاً على التنبيه للشيرازي.. غير أن المصادر التي أشارت إلى هذا الكتاب ذكرته اسماً ولم تحصل على نسخة منه للتأكد من ذلك.
ويقال إن ابن النفيس كتب في الفلسفة شرحاً لكتاب "الإشارات"، وآخر لكتاب "الهداية في الحكمة" للشيخ الأديب والرئيس ابن سينا، ونلاحظ أن معظم مؤلَّفاته كانت تصنيفاً وشرحاً للكتب الشهيرة.
وفاته
وفي أيَّامه الأخيرة، بعدما بلغ الثمانين من العمر، مرض ستة أيام مرضًا شديدًا، وحاول الأطباء أن يعالجوه بالخمر، فدفعها عن فمه وهو يقاسي عذاب المرض قائلاً: "لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر". ولم يطل به المرض؛ فقد توفي في سَحَر يوم الجمعة الموافق (21 من ذي القعدة 687هـ = 17 من ديسمبر 1288م).
ـــــــــــــــــــــ
اما الثاني عالم آوربي آخذ عن ابن النفيس فآحرق