الموضوع: أسبوع وكاتب ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 23/10/2006   #190
صبيّة و ست الصبايا butterfly
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ butterfly
butterfly is offline
 
نورنا ب:
Jan 2006
المطرح:
قلب الله
مشاركات:
14,333

افتراضي


قراءة في رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان


بقلم صفاء شاهين


كأنه كان يبحث عن مكان يحميه من خسائر الماضي، عن ظلال تخفف عنه لهيب الظهيرة في رحلات الهجرة، عن يد تداعب شعره وتعيد إليه حنين أيام يافا، هكذا يبدو غسان كنفاني في رسائله إلى غادة السمان، بل أعمق من ذلك، يذهب في بعض الرسائل إلى البحث عن معنى الوجود والحياة، عندما تصبح الوحدة كل شيء، والحياة صقيعاً أو أشبه بهضبة جليد.

لا يستطيع المرء أن يقرأ هذه الرسائل التي صدرت في كتاب دار الطليعة البيروتية عام 1991، بمعزل عن الحقبة التي كتبت فيها، وهي نهاية الستينيات، تلك المرحلة التي تركت أثرها في حياة الكاتب، وفي حياة العاشق، وفي حياة المناضل. وقد أتى الحب ليشعل الأماكن الغامضة في داخل المبدع، فكانت حياة من نوع آخر، لشدة ما صدع جدران روحه. فراح يلح في الكتابة مستلهماً أروع المشاعر وأرق الأحاسيس، مسترجعاً صوراً من ماض سحيق في مكان لم يعد بمقدوره العودة إليه، للتفرج على بقاياه أو رموزه. وكانت يافا حاضرة كمكان مفقود كما الحبيب الذي يقيم في طرف آخر بعيد من الأرض. فكأن الأماكن المشخصة الأخرى مطارح رجراجة وغير ثابتة وغير متوضعة بالنسبة إليه، أماكن مؤقتة، لا يشعر بأنها صلبة تحت قدميه حين يسير، ولا تشعره بالأمان، لذلك كان البحث عن أرضية تشعره بالطمأنينة، وعن ائتلاف وجداني يعيد إليه معاني ومضامين حميمية التواصل وألق الذاكرة وينابيع الطفولة، كان البحث عن الذات المأزومة في شتاتها، وعن الحلم المتعملق في ذروة الآلام: وكانت غادة السمان. لكنها أيضاً، مرت سريعاً في (الرحلة)، أو في مسار البحث عن شيء يحميه ويثبته ويحصنه، بدت غصناً وارفاً في صيف حار، لا يكفي، لا يستطيع الصمود في مواجهة الفصول، وكانت امرأة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكنها ابتعدت، وغابت، مثل كل الأشياء الجميلة الأثيرة التي أحبها وتعلق بها وابتعدت عنه.

في الرسائل، فاض غسان كنفاني بالصدق والعاطفة والبوح الوجداني، قال، ربما، كل ما أحس به وهو في غمرة الاشتياق والحنين، وقد تكون الرسالة التي يخاطب بها أخته تلخيصاً مكثفاً لرؤيته للعبة الحياة والحب. أما المبدعة غادة السمان فإنها تقول في (هوامشها) الرائعة: (إنه أتاها ذات صباح.. وسلمها الرسالة ومضى من دون كلام آخر). وفي الرسالة تقرأ غسان كنفاني الفتى، أو الصبي في شوارع يافا وأزقتها، نشاهده مبلل الشعر يلهو تحت مزاريب السطوح، يذكر أخته بأشياء وأشياء عندما كانت في مخاض الولادة، مهدداً الطبيب (بالمشرط) إذا لم ينقذها من الموت. ويسأل أخته، في السياق، عن المولود الذي لم يره بعد ذلك، لأن الهجرة بدأت، يسألها عنه، عن أحواله يوم كان صغيراً، ويضع رأسه بين يديها لتجفف شعره المبتل، ويقول لها: (أحس أن رأسي مبلل من الداخل) ثم يحدثها عن أحواله وحبه، ويذكرها بكلام كانت تقوله له، عن فتاة سوف تعصر له قلبه، ويصارحها بأن ذلك قد حدث فعلاً، وأن قلبه يعتصر كالليمون على (كورنيش الروشة)، يصارحها بألمه، وبالوجع، وبالتصدع الذي يشعر به، ويكثف في السياق مشاعره وأحساسيسه نحو الحياة والوجود والموت. يبوح بكل ما يختلج في أعماقه وبكل ما يحرق القلب ويوجع الجسد، ويتكشف كالمرآة واضحاً صريحاً بعيداً وعميقاً، ومناضلاً عرف، في أعوام قليلة نسبياً، كيف يخلق لنفسه عالماً إبداعياً واسعاً على أكثر المستويات والصعد الإنسانية أهمية.

وما يستنفر القارئ في تلك الرسائل أن غسان كنفاني كان يستعجل حدوث كل شيء، يستعجل اكتمال الفكرة والحلم والحب، يجري، يركض كي يحقق كل شيء قبل نهاية كان يتوقعها قريبة، وقريبة جداً، وكأنه، في توهج، كتابة وحباً ونضالاً، يهرب من نهايته، يبعد عنها طفولة بعيدة، وتارة، في رحلة ظهيرة محرقة، وتارة في حب امرأة نأت عنه، بعد أن ألهبت القلب ومزقت مشاعر تتأرجح ما بين الحياة والوجود، فراح أيضاً يستعجل عودتها، ويلح في لقاء سريع، ويدعوها إلى الكتابة، إلى الإجابة عن رسائله. وفي كل مدينة كان يذهب إليها، تصبح المدينة بريداً بالنسبة إليه لإرسال الخطابات، وكل ذلك لم يغير شيئاً، بل كان يزيد من وهج التجربة، من وهج الحنين والاشتياق، وتصبح الكتابة وحدها درب الوصول إلى الشيء المفقود، إلى الأرض السليبة، إلى المرأة، الأم، الحبيبة، إلى الدروب البعيدة، لتصبح هي الخلاص، دون أن تكتمل بها النجاة، بل لتزيد قلق المبدع، ومعاناة العاشق.

بالنسبة للرسائل، نحن لا نعرف النصف الثاني منها أو الوجه الآخر، لا تستطيع تحديد ماهيتها، أو كيف كانت إجابات غادة السمان وردودها (وإن كانت تدعو، في هوامشها وفي المقدمة، الذين بحوزتهم رسائلها، العمل على نشرها)، لكننا نستشف من بعض ما كتبه كنفاني لها، أن إجاباتها كانت تحمله أكثر على القهر والحزن والقلق. تقول له في (كارت بوستال) أرسلته إليه من لندن: (هنا في برد كتير)، وبالمقابل نقرأ غسان الرجل العاشق الذي يحترق، دعوته إليها، إلى اقتسام وحدته، إلى التناغم مع روحه الملتاعة، ليكتمل بها. يكتب إليها واصفاً دواخل عالمه وتفاصيل الأشياء حوله، وكيف أنها شكلت بالنسبة إليه الشيء الضائع الذي يبحث عنه، ثم ذهب إلى ضياع جديد.

ومهما يكن من أمر فقد شكلت تلك الرسائل علامة فارقة، معبرة أضاءت بعض زوايا حياة غسان كنفاني وإبداعاته، وإن كان البعض يذهب إلى أنها (غير لائقة) أن تصدر في الوقت الذي يكرم فيه المبدع كمناضل، مع أن النضال هو سمة مرتقبة من سمات الحب، وأن العديد من العشاق الذين عرفهم التاريخ كانوا مناضلين غيروا عالماً وصنعواً عالماً جديداً أكثر زهواً وتفتحاً.




الصور المرفقة
نوع الملف : gif 30292.gif‏ (13.7 كيلو بايت, 0 قراءة)

انك " فقير إلى الآخر " كما هو فقير إليك " وأنك محتاج إلى الآخر ، كما هو محتاج إليك
الأب جورج

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 



- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 



آخر تعديل butterfly يوم 05/04/2007 في 14:00.
 
 
Page generated in 0.03004 seconds with 11 queries