سيرغي يسينين..آخر شعراء القرية الروسية
سيرغي يسينين..آخر شعراء القرية الروسية
ترجمة: فؤاد العلوش
تتسم العودة الى يسينين بأهمية كبيرة في عصرنا المضطرب حين بدأت تنضب المقولات الاخلاقية كالاخلاص والضمير والشرف والرحمة والحب من قاموس الاعراف العالمية حين بدأت تسود المصالح الانانية الضيقة فوق كل الاعتبارات، حين راح الانسان يعبث بالطبيعة دون اي رادع اخلاقي حين راحت المدن الكبيرة تزحف باسم التحضر والمدينة لتسحق اوصال القرى والغابات بكل ثرواتها الخلابة. عندما نعود الى يسينين يعني اننا لا نتناول في الحديث مسألة حب الطبيعة وحسب بل مسألة انقاذها وهنا يكون يسينين احد اكثر الادباء معاصرة.
في بداية القرن المنصرم تألقت في فضاء الشعر الروسي اسماء ساطعة مثل الكسندر بلوك وبوريس باسترناك وفلاديمير ماياكوفسكي وآنا اخماتوفا ومارينا تسفيتايفا والكسندر تفاردوفسكي وقد فارق أولهم الحياة في عام 1921 وتوفي الاخير عام 1971. اما سيرغي يسينين فقد ولد في عام 1895 وتوفي عام 1925.
كان معظم هؤلاء الشعراء من ابناء اسر عريقة من المثقفين واكثر الناس علما في زمانهم. كانوا يتميزون بحدة الفكر والذهن والشاعرية الاصيلة وامتلاك ناصية صياغة الشكل الشعري لحد الكمال كما استوفوا جميع امكانيات اللغة الروسية المرنة وذات الجرس العذب.
لكن سيرغي يسينين قد تخلف عنهم في امور كثيرة فهو ابن فلاح وانهى فقط المدرسة الدينية التي يتخرج منها المعلمون للعمل في المدارس الابتدائية. بيد انه كان الاقرب الى الشعب الروسي، مثله مثل بوشكين، وقد حفظه الشعب عن ظهر قلب ولا يكاد منزل روسي يخلو من صورته.
كان قريبا جدا من انطلاقة الابداع الشعبي وتغذى من نسخ حياة الفلاحين وأملت الركائز الاخلاقية القديمة تأثيرها فيه الى حد كبير حيث يجتمع فيها حب العمل والغناء والجمال. ان موهبة يسينين الشعرية ومجازيته المتألقة التي تعود جذورها الى الفلكلور قد اقترنت بالصدق المرهف. وقد اكسب هذا اشعاره قوة طبيعة غير عادية تذهل الخيال وجمالا عميقا لا تجدهما لدى الشعراء الآخرين المترعين بالمعارف والسعي عن ادراك الى ضد الشرطية الحتمية للشاعر.
قال مكسيم غوركي الكاتب الروسي الشهير: ان يسينين ما هو بالانسان قدر ما هو كائن حلق من اجل الشعر حصرا. اما يفجيني يفتشينكو فقال فيه: ان يسينين لم ينظم اشعاره بل لفظها من اعماقه.
القرية احب الاشياء الى قلب الشاعر وينبوع شاعريته ومضمون شعره ودونها لا يستطيع الشاعر ان يعد نفسه موجودا وقد لقب نفسه بـ «آخر شعراء القرية الروسية» وحتى بعد قيام الثورة البلشفية ظل الشاعر يغني قرية الطفولة ويقارنها بالمدينة وظلت ايضا الطبيعة تلاعب مخيلته بحس انساني طبيعي.
عاش يسينين حياة قصيرة مليئة بالأحداث الدرامية فقد عاصر ثورتين وحربا عالمية حصدت الملايين من الارواح البريئة وجلبت المآسي لمن بقي على قيد الحياة في ظل هذه الاحداث العارمة كتب الشاعر ملحمتين «روسيا تمتد» و«روسيا السوفييتية» وقد مد فيهما الشاعر يده الى قرية كبيرة لم يعرفها من قبل. ولم يستطع الشاعر ان يجتاز وعيه القروي حتى النهاية.
يعود الشاعر الى التاريخ ومصير الفلاح الروسي محاولا فهم ما تحمله الثورة لهم فكتب ملحمته الشهيرة «بوجاتشوف» وفيها يتفجر سؤال مؤلم: هل ستحمل الثورة مأساة جديدة للشعب كما جرى في ثورة بوجاتشوف؟ وعندما قرأ بوجاتشوف امام غوركي قال الاخير: جعلني اضطرب حتى التشنج وغصت حنجرتي بالبكاء. ومر الشاعر بأيام مرة وشك وتأرجح وعدم ثقة بالمستقبل فقد انتابته الاحزان والافكار الكئيبة من جراء الحرب الاهلية التي دامت سنوات وكذلك الدمار الذي لحق بالبلاد ويتساءل الشاعر: «الى اين يحملنا قدر الاحداث»؟
اما ملحمته الشعرية «آنا سينجينا» فهي من اضخم الاعمال الفنية وتقوم على اساس غنائي، الحب الاول لابن فلاح عشق شابة جميلة من فئة الاغنياء ولكن هذا التصادم بين المحبوبين يجري على قاعدة الحياة الشعبية الواسعة وصبغ هذه الملحمة بمشاكل اجتماعية حادة استقبلها معاصروه بدهشة واعجاب.
وصلت الى روسيا بعد الثورة مباشرة الراقصة الامريكية ايسدوراجو دونكان ويقال انها كانت معجبة برومانسية الثورة من شدة اعجابها قررت البقاء وتأسيس مدرسة للرقص. وقع يسينين الشاب في اسر ذكائها وموهبتها ومظهرها المتطرف. فتزوجا وخرجا في جولة حول العالم وخلال عام ونصف زارا ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وايطاليا والولايات المتحدة الامريكية وبعد عودته راح ينظر اليه بعين الشك والريبة على الرغم من تصريحاته تغيرت آرائي في وطني بعد زيارتي لامريكا وهذه الرحلة «زادتني حبا لوطني» وقبل مصرعه التراجيدي في ظروف غامضة كان قد ادمن الخمر وارتياد اماكن اللهو.
عاش يسينين حياة قصيرة، ثلاثون عاما ولكنه ترك ارثا شعريا غنيا منحه الخلود. ان شعره قريب لكل من يقرأه بغض النظر عن قوميته فقبل مصرعه صدرت اشعاره المترجمة في اليابان والولايات المتحدة الامريكية وفي عدد من البلدان الاوروبية وقد ترجمت اعماله الى 32 لغة. واليكم بعض ما كتبه الشاعر في سن مبكرة.
تسريحة خضراء
وصدر فتاة
ايتها البتول الرقيقة
هل تتمتعين بمنظر البحيرة ؟
عن اي شي تحكي الرمال ؟
أترغبين بأغصان مجدولة
أأنت الفطر القمري ؟
اكشفي لي عن اسرارك
وأحلامك الشجرية
فقد احببت كآبتك
وضجتك على اعتاب الخريف
قالت لي البتول :
آه منك يا صديقي الفضولي
الليلة ممتلئة بالنجوم
وهنا راع سكب الدموع
فرش القمر نوره
وتلألأت الخضرة
وقد عانق القمر ساقي العارية
تنفس متحسرا
وقال والاغصان تتحشرج
وداعا يا حمامتي
والى اللقاء مع بلابل جديدة .
ـــ
انا راع ومضاربي بين الحقول المتموجة
وفي الجبال الخضراء
وفي المنحدرات
ضجة الشنقب الرنان
يحلق دائرا فوق الغابة
في زبد الغيوم المصفرة
وفي غفوة هادئة تحت الخيمة
اسمع همسات البتولات
وعلى خضرة الحور ندى
يتلألأ في الضحى
انا راع واعمدتي
في مروج خضراء ناعمة
تتحدث الابقار معي بلغة الايماء
واشجار البلوط الوقورة
ترمي اغصانها صوب النهر
ناسيا هموم الناس
انام على اغصان مقطعة
واصلي للفجر الوردي
ناسكا عند النهر
ـــ
نفضت بطمة الشمال الثلج
عن ثوبها
فبانت الخضرة في الورد الندي
وجنحت الحقول للهروب
وجالت الغربان في القطب
تهدلت الحشائس الحريرية
وفاحت رائحة الصنوبر القاري
آه ايتها المروج وغابات البلوط
انني نشوان بالربيع
البشائر المخبأة تفرح
وتبعث البهجة في روحي
وافكر بعروس
اغني من اجلها لا سواها
انفضي يا بطمة الشمال الثلج
وغني ايتها الطيور في الغابة
ففي الحقول انبعاث
وسأحمل الورد كغرامة .
ـــ
ينسج الفجر اشعته الوردية على البحيرة
ويبكي القطا بترنم في غابة الصنوبر
وفي مكان ما تبكي صفارية من اعماق جوفها
وحدي لا ابكي، فروحي مضاءة
اعلم، تخرجين عند المساء الى ما وراء الطريق
ونجلس على كومة من حشيش غضه تحت كومة الجيران
واغار بالقبل حتى السكر واذبل كالورد
وانتشي من الفرح بدون كلام
انت بنفسك رميت ثوب عرسك الحريري وحملته انا
السكران حتى الصباح بين الاشجار
دع القطا يبكي بترنم
فهناك كآبة مفرحة في الفجر الوردي
ـــ
رسالة الى امي
ألا تزالين حية يا عجوزي ؟
حي أنا سلام عليك وسلام
ليغمر دارك
ذلك الضوء المسائي البديع
يكتبون لي انك تذوبين شوقا
كما اصبحت تقلقين علي كثيرا
وانك غالبا ما تخرجين الى الطريق
بفستان مهتريء من طراز قديم
في عتمة الليل الزرقاء
غالبا ما تتخيلين : كأن احدا ما في عركة خمارة
قد غرز في قلبي سكينا فينيقية
لا بأس يا أمي! اطمئني
هذا هذيان مؤلم لا غير
فأنا لست بسكير مدمن
كي اموت قبل ان اراك
مازلت لطيفا كما عهدتني
احلم فقط بشأن واحد
ان اهرب بسرعة من الحزن المضطرب
واعود الى بيتنا منخفض السقف
سأعود عندما تتفتح اغصان
حديقتنا البيضاء في الربيع
شرط ان لا توقظيني عند الفجر
ذقت من الحياة حرمانا وتعبا مبكرا للغاية
انت وحدك عوني وسعادتي
انت وحدك ذلك الضوء المسائي البديع .
..غنــــي قلــــــيلا يـــا عصـــافير فأنــي... كلمـــا فكــــرت في أمــــــر بكـــيت ..
|