ما يشبه كلاما أخيرا (الجزء الثاني)
إذنْ.. فاغفروا لنا، قُضاتَنا وأسيادَ يأسنا، أننا أبناءُ وقتٍ
فاسدٍ.. وأرض ٍ عاثرة ٍ.. وأهلٍ أموات!.
إغفروا لنا أننالا نجرؤ على معاتبة ِ طاغية ٍ ، أو نبيٍّ، أو
محصِّل ِ ضرائب.
إغفروا لنا أننا خائفونَ وتعساء، وليس لأحد منا غيرُ قلب ٍ
واحد ٍ يحتصَّنُ به في مواجهة هذا الجنونِ الجنونْ.
إغفروا لنا أن الحياةَ ماضيةٌٌ .. والذاكرةَ ليست عمياء.
إغفروا لنا أننا بشرٌ . إلى حينْ.
*
كنا نمدُّ البساط على العتبة.. كيما يَتوهَّمَ عابروا السبيل
الجائعونْ أنهم مطارنة ٌ، أو رُسُلُ سلام ٍ، أو قراصنة ٌ
روّضوا البحار وأخضعوا القارّاتِ كلها.
كنا بشراً إلى حينْ.
كنا نزرعُ الحبقَ في الممرّات.. حيثُ كان فقراءُ
الضيوف يرفعون رؤوسهم وأكتافهم كأمراءَ تائهينَ هبطوا
إلى الأرض ِ في صحون ٍ طائرة، ثم يرمقوننا بزوايا أعينهم
ويُحيُّوننا برؤؤس ِالأصابع، متقدّمينَ رويداً رويداً.. كأنّما
لتُنفخَ لأجلهم أبواقُ الجُند ِ، وتَنْفتحَ أبوابُ القلاع ِ
المحصَّنةُ. ثم- وهم يتأهّبونَ للجلوس- ينفخون في
راحاتهم.. ويغرسون أنوفهم في الهواء ليتنبأوا لنا بمواعيد ِ
سقوطِ الأمطارْ، فيما سكّيرٌ حزينٌ وأخرق، بندبة ٍ غامضة ٍ في
الجبين، وسنذٍ وحيدة ٍ في الفم، يُجمِّل تعاستنا بأغنيات ٍ
تمجِّدُ اللهَ.. والخمرَ.. والنساءْء، فإذا غضبَ سبَّّ أمّهاتِنا
والملوك. لكنّه، بعد آخر جرعةٍ من العرق ِ الثقيل ِ والصبر،
يتفرّس فينا كأننا صانعو فقرة..
ثمّ.. يصفعُ السماءَ
ويبكي.
كنا بشراً إلى حينْ..
نتقاسمُ الخبزَ، والغصّةَ، ولقمة َ الجمالْ
ونشهقُ، متوجِّعينَ، لمرأى غْيمةٍ.. أو عصفورٍ..
أو فراشة ٍ تتمرجحُ على تويج ِ وردةْ.
على أنني- كعادتي الآنَ- لمْ أكنْ أكثِرُ من الأسئلة..
فلم أعرفْ أبداَ يا أبي
لماذا يوجعُ الفقراءَ الجمال!..
*
*
... فإذنْ
ليتك َ تعرفُ يا أبي
كم الشوقُ معذّذِبٌ، وكم الذكريات ُ موجعة ٌ
ليتك َ تعرف- وأنت َ تقطع الطريق َ إلى نهايتها-
كم الحياة ُ قصيرة ٌ، ورائعة ٌ، وملعونهْ..
وكم تخيفُ الولد َ، إذ يتأمّلُ في الموت،
فكرةُ أن تنتهي به الطريقُ إلى ما يشبه هذا القبرَ
أو هذه البلادَ
أو هؤلاء الأعرابَ الذين يتغذّون على القوافي
ولحوم ِ الضان ِ
وأفخاذ ِ النساءْ.
أخيرا ً ..
ليتك َ يا أبي- وأنتَ تتشمَّمُ روائحَ ثيابي، وما تبقّى من
أنقاضي.. من أوراق ٍ، وغبار ٍ، وأسمال ٍ مبقّعة ٍ بالحبر ِ
والخلِّ والدموعْ-
ليتك َ تعرف ُ
كم كان َ الولدُ- وهو يقطع الطريق َ إلى ظلامه ِ-
خائفا ً وتعيسا ً..
كم كان- وهو يكوِّرُ صيحتَهُ كالطغاة ْ-
تعذِّبه الذكرى
وتوجع ُ قلبَهُ روائح ُ الطفولةْ.
وكم كانت ضيّقة عليه ِ دنياهُ الواسعةُ
وقارّاتُ يأسهِ المفتوحةُ على الخرائب ِ، والقيظ ِ، والغبارْْ..
وكم كانَ- وهو يتعجَّل المضيَّ إلى ما هو فيه-
يأملُ أن يُعادَ تأليفُ الحياةِ مرّة ً ثانية ً
ليبدأها دونما غلٍّ، أو حسرة ٍ، أو شهواتْ.
ليتك َ تعرفُ
كم ِ الخريفُ محزنٌ
والولدُ توّاقٌّ إلى قبلة ٍ..
وباب ٍ..
وحضن ٍ أخيرْ....
ليتك يا أبي
.. .. .. .. ..
ليتَ أمّنا جعلتْ فوقَ لحافنا ورداً
وطيَّبتْ نعاسَنا بالقبلاتْ.
ليتَ الأمواتَ لم يموتوا
واليائسينَ صبروا
والضالّينَ يعودونْ.
ليت الأخوة َ،
قبلَ أن تنحدرَ الشهواتُ بأحلامهم إلى الجنونْ،
كانوا أرْأفَ بما رَعَينا من نبات ٍ
وأطلقْنا من وعود ٍ
وطيّرْنا من فراخ ِ عصافيرْ.
وليتَ الذين يركضونَ أما منا
ليصلوا قبلنا إلى رؤوس الينابيعْ
ويقطفوا أُولى الثمارْ
ويزرعوا أعلامَهم على رؤوس ِ التلال ِ العليا...
ليتهم يتريّثون قليلاً
عند هذا المنعطف ِ الشائن ِ الخبيثْ
لنتبادل ما بقيَ لدينا
من أزهار ٍ
وقبل ٍ
وأمنياتْ،
ونُصرِّحَ أمامَ جميع ِ ما يُزهرُ من لوز ٍ
ويسيلُ من سَواق ٍ
ويسرحُ من ماعز ٍ وغنم ٍ وبغالْ..
أننا إخوةٌ.. لا مقتسمو غنائمْ
بشرٌ عاديّون... لا ملوكْ
وموشكونَ على الرحيل ِ.. لا آلهة ٌ بكماء ُ
لا تحزن ُ.. ولا نأسفُ.. ولا تشيخْ.
وليتنا لا نشيخ.
*
ليتَ من ماتَ يُبعثُ
كي نتولّى تعاستَهُ باليسير من الحبِّ والعَبَراتْ
فتهدأ غصّتُهُ في التراب ِ، وتدْفأ كفّاه ُ.
ليت الذينَ قضوا في الطريق إلى النبع ِ
لم يرحلوا ظامئينْ.
وليتَ الحياةْ
أخلصتْ حين قالتْ لنا:
إنَّ أجملَ ما يوهَبُ المرءُ في سعيه ِ
أن يحبَّ الحياةْ.
.. .. .. .. ..
ليتَ أنَّ المسيحْ
لم يقلْ لأبيه ِ: "أبي...."
ليتَ أمَّ المسيحْ
لم تقلْ: أنا عذراءُ ما مسَّني بشرٌ،
ليتَ يوسفَ لم يمتثلْ أو يصدِّقْ.
وليتَ المجوسْ
كَذَّبوا نجمهم، وأضاعوا الطريقَ إلى مذود ِ الحسراتْ.
ليتَ أنّا جميعا ً كذبنا على ربّنا
فضلَلْنا.. وخُنَّا..
ليتَ أنّا..
خسرنا فراديسنا كلّها
وربحنا جحيمَ الحياةْ.
.. .. .. .. .. ..
.. .. .. .. .. ..
سنحبُّ الحياةَ اذنْ.. سنحبُّ الحياةْ
وسنلعنها حين نَقْنط ُ..
ثم نتوقُ إليها مؤبّدةٌ كظلام ِ الطواغيت ِ،
خادعة ً كالعدالة ِ،
عمياء َ كالحبِّ،
فتّاكة ٌ كقلوب ِ النساء ِ..
ومالحة ً كالنشيجْ.
سنرجمُ أبراجها بالدموع ِ إذا أخلفتْ موعداً
ثم نركعُ تحت شبابيكها كالمجانين ِ نسألها الصفحَ،
: يا للحياةْ
كيفَ تُفْلتُ منّا..
فلا يتبقّى لنا من فضائلها غير لسعة ِ خيباتها
والدخان ِ الذي يتصاعدُ من ثكنات ِ الطغاة ْ.
*
*
.. أخيراً.. خذني من يديَّ يا أبي،
ورَِّبتْ على موضع ِما كان لي من أجنحة ٍ
تُستعادُ بها ملكّية ُ السمواتْ.
خذني إلى حافّة هذا الوقت ِ المريضْ
ولا تتركني واقفا ً كدريئة ِ الرمي ِ..
فأنا أخافُ من الموت ِ ونفسي.
ولا تَهُمَّ بذبحي قربانا ً لملك ٍ، أو عقيدة ٍ، أو إلهْ
فأنا لستُ وَلَدَ ابراهيم..
والبشرُ ما عادوا يُقْتَدونَ بالخرافْ
خذني.. وأطْلقني في عراء ِ الخليقة الدامي
كعجل ٍ طائش ٍ، أ و أُمنية ٍ، أو غراب ِ نبوءاتْ.
خذني إلى الحافّة ِ هناكْ
لأرى السماءَ أعمقَ، وأقربَ، وأصفى
فأحلمَ بي حرّاً.. وأطلبَ فرصة ً إضافية ً للحياةْ.
خذني..
واتركني أتدحرجْ في الهواء الأزرق ِ كبيضة العصفورْ.
ولا تتمنَّ لي سعادة ً، أو مُلْكا ً، أو غبارَ مجدْ..
فحيثُ يخفق الجناحُ لا يكون ألمٌ، أو خوفٌ، أو قنوطْ.
أطلِقْني إذنْ، كمطلع ِ أغنية ٍ،
كشهقة ٍ،
كدعاء ِ حبْ.
أطْلقْني.
وتطلَّعْ إليَّ بعينيك َ الكفيفتين وروحك َ الرقراقة ِ كخلاصة ِ النورْ
تنصَّتْ راضيا ً، إلى حفيف ِ جناحيَّ في الأعالي
فيما أنا- بين الشهقة ِ والشهقة-
أضمُّ ريشي على سعادتي
وأحلمُ بأصابع ِ أمي
تباركني، وتنسجُ لعينيَّ النعاس َ.. والأمل َ.. والأحلام ْ.
إلى الحافّة إذنْ يا أبي
خذني إلى الحافّة...
لكنْ- قبل َ أن تُديرَ ظهرك لي،
وأديرَ لك قلبي-
دعنا نتوقّفْ قليلاً
على تخوم ِ هذا الخريف ِ الطائش ِ السقيمْ..
دونما علم ٍ نغرسهُ،
أو نار ٍ نوقدها،
أو خوذة ٍ مرفوعة ٍ على حربة
تدلُّ الحجاجَ إلى مواضع الموتى...
دعنا نتوقّف قليلا ً هناك
لنزرع َ وردة ً أخيرة ً
حيث تَمدّد َ اليأسُ في قبره ِ كميت ٍ حقيقي
ثم أطلقَ على رأسه النار
كي لا يرانا
ان الحياة كلها وقفة عز فقط.......
شآم ما المجد....أنت المجد لم يغب...
jesus loves me...
|