الكاتب: المحامي حبيب عيسى
أنا أمسك القلم بيدي للمرة الأولى .. على عتبة الزنزانة مغادراً إلى وطنٍ لم يعد أهله يطيقون حياة الزنازين، والخوف، والقهر.
- على عتبة الزنزانة مغادراً، استحضرت ذاكرتي كل ما كنت أقوله على عتبتها لأحشر فيها تلك الليالي الطويلة .. فماذا سأقول الآن؟
- إن قلت إنني سأردد ما كنت أقوله على عتبتها داخلاً فهذا يعني هدراً لسنوات من عمري قضيتها في تلك المساحة الضيقة التي أرادوها قيداً على الحرية وأردتها صومعة للتأمل والتفكير وإعادة النظر في سنوات طواها الزمن من عمري حافلة بكل ما يخطر على البال من مآس وأهوال .. وهزائم كثيرة، وانتصارات قليلة ..
- لا .. لم تكن سنوات الزنزانة هدراً .. لقد علمتني أن الإنسان عامة، والعربي خاصة عندما يدفع إلى الولوج في بطن الزنزانة يشبه إلى حدٍ بعيد قطعة الحديد التي ترمى في كور النار لتشتعل، وتتورد، وبقدر ما تزداد النيران تأججاً بقدر ما تخترق دواخلها فتتفحم الخلايا الضعيفة وتصبح رماداً وتتفولذ الفلزات وتتخلص من الشوائب .. لكن هذا لا يغير أبداً .. أبداً .. من طبيعة تلك الفلذات، بل يدفعها إلى مزيدٍ من التوهج .. لهذا فقد تكون الزنازين من أهم الامتحانات في الحياة البشرية .. ولهذا .. فإنني أدعو جميع العرب من المحيط إلى الخليج إلى التخلص نهائياً من الخوف منها، إنني لا أدعو أحد إلى دخولها لكنني أدعو بصدق إلى عدم الخوف منها .. إذا لم يكن منها بد .. فلندخلها بشجاعة .. والأهم أن نغادرها ونحن أكثر شجاعة .. وأشد مضاء، وصلابة .. لقد اعتمدت بعض الشعوب يوم اقتحام السجون السياسية فيها عيداً وطنياً لها .. أنا أقول الآن أن الطريق إلى الحرية في وطن العرب يمر عبر اقتحام السجون .. وعندما تضيق السجون بالنزلاء ستتحطم القضبان لمرةٍ واحدة وأخيرة وتتفتح أزهار الحرية في أرجاء الوطن ..
- بصدقٍ أقول، إنني غادرت الزنزانة، أو دُفعت إلى مغادرتها وفي قلبي غصة وحرقة .. لقد تركت ورائي إخوةً أحبة أعزاء كنت قد قررت عند دفعي إلى الزنزانة أنني سأكون آخر معتقل سياسي في سورية ثم سأنشر هذا الحلم بين المحيط والخليج .. لكن السلطات في الوطن العربي عاجزة عن تحقيق أي حلمٍ مهما كان .. على ما يبدو حتى هذا الحلم حرموني من تحقيقه ..
- هل ما زال الاعتقال السياسي أسلوباً مقبولاً في هذه المرحلة التاريخية؟
أما آن لهذا التوحش أن ينتهي ..؟ هل يعقل أن نحيا بحريةٍ وكرامة ووراء القضبان أخوة وأعزاء لم يعتقلوا لأي سبب شخصي ولكن اعتقلوا من أجل حرية الوطن ..؟
إن أقسى اللحظات مرارة تمر بالسجين هي تلك التي يشعر بها أن الشعب الذي يضحي من أجله لا يوليه الاهتمام اللازم لا يحتضن أحلامه، لا يحاصر سجانه .. ويلٌ لشعب لا يكرم مناضليه وينصر فرسانه الذين يدفعون حريتهم ثمناً لحريته ..
- على أعتاب الزنزانة داخلاً كنت أدعو إلى الحوار .. وعلى أعتاب الزنزانة مغادراً ما زلت أدعو إلى الحوار .. والحوار لا يبنى إلا على التصادق .. والصدق عند العرب أصيل يرتبط بتطورهم الحضاري، والتكاذب عند العرب ذميم، ويرتبط بانحطاطهم وهزائمهم وكوارثهم.
- لقد بنى العرب أول دولة في التاريخ عمادها الأساسي الصدق بينما كانت الإمبراطوريات في العصور السالفة تقوم على الجيوش والقوة الباطشة ..
أشاد العرب في (صور) دولة عمادها الأساسي هو الصدق .. كانت تفاخر على همجية القتل والبطش بأن تفتخر .. أنه لا يوجد في دولة صور كذوب واحد .. هكذا من اليمن إلى بر الشام إلى بلاد النهرين إلى النيل العظيم وفاس وقرطاج .. وعندما كان ينهار عماد التصادق كان كل شيء ينهار ..
وعندما أراد سبحانه وتعالى أن يوحي للبشر، ولا راد لإرادته، اختار رجالاً من العرب لحمل رسالة الوحي والهداية للإنسانية في تتابع تاريخي بالغ الدلالة .. كلما اشتدت المحن .. أن عودوا إلى التصادق .. وإلى الصراط المستقيم .. وصولاً إلى الصادق الأمين .. واستمراراً حتى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخنا حيث الوجود مهدد في الصميم .. وحيث لا مخرج للخروج من المأزق إلا باستلهام روح الإبداع والصدق، والشجاعة، والمرؤة ..
- إنني أدعو إلى التسامح، وإنني لا أحمل أية أحقاد من أي نوع، حتى للسجان لكنني في الوقت ذاته أشد تصميماً على أن من حق شعبنا أن ينعم بالحرية والجهر بالرأي والتشارك في صنع القرار، وأن من حق الشعب وحده أن يقرر من يمثله ومن لا يمثله، لم أعد أطيق الصمت، والمخاتلة، والمداراة ولم أعد أطيق أي شكل من أشكال العمل السري، أو القول السري أو الأفكار السرية، أريد أن أجهر برأيي، أن أصرخ بكل ما أراه .. أريد أن نبحث في دواخلنا عن رموزٍ للحرية .. عن رموزٍ للتقدم .. الوطن الآن مهدد ولا يحميه إلا شعبٌ حر .. كل فردٍ فيه يشعر أنه رمز لهذا الوطن .. وعندما نتحول إلى شعب من الرموز .. ستتبرعم أزهار الحرية وستثمر .. هل قلت ما أريد قوله ..؟
لا .. لم أبدأ بعد .. في جعبتي الكثير مما حملته من زنزانتي (الصومعة) التي كانت تنشر حولها رائحة البخور والنعناع والزعتر .. فقط أردت أن أقول .. أنني أشعر باعتزاز وفخر لا حدود له .. ولجت عتبة الزنزانة بشجاعة يشوبها تخوف على أسرةٍ وأولادٍ ما زالوا في مرحلة التبرعم وتخوفٍ على أصدقاءٍ وأخوةٍ وأعزاء ونهجٍ في الحوار والتصادق لم يتصلب عوده بعد .. لكنني وجدت نفسي على عتبة الزنزانة مغادراً وأنا بشجاعةٍ لا يشوبها التخوف .. الأسرة بخير .. الوطن بخير0 تركت عشرات الأصدقاء .. عندما عدت وجدتهم مئات .. آلاف .. لم أهزم.
- إذن لم يهزمني السجان .. لكنني لم أتمكن من إقناعه بعد أن يغلق سجونه .. هو يريد هزيمتي .. أنا لا أريد هزيمته .. أنا أريد إقناعه أن الطريق الوحيدة هي الحوار .. الحوار .. وأن السجون لم تعد مجدية .. لم تعد مجدية .. هل يمكن أن يتعلم قبل فوات الأوان.
- هكذا خطت يدي الكلمة الأولى على أعتاب الزنزانة .. وهكذا كان يجب أن تكون لمرصد جمعية حقوق الإنسان .. تحية للقائمين عليها، ولمرصدها الذي أرجو أن يتحول لمنارة للحرية يرى من خلاله شعبنا كل الحقائق كما هي.
الحرية لسوريا من الإحتلال الأسدي