أولا - المسيحييون في ظل حكم الفرس
بدأت المسيحية في المنطقة منذ القرن الأول الميلادي على يد الرسل. وكانت غالبية الشعب أنذاك من الكلدوأشوريين يدينون بالديانات النهرينية القديمة من سومرية وأشورية وكلدانية , وأقليات تدين باليهودية والزرادشتية وبعض من عقائد الرومان واليونان , فأعتنق غالبية الكلدوأشوريين الديانة المسيحيية , وكانت البلاد أنذاك تحت حكم الفرس الساسانيين الذين كانوا يدينون بالزرادشتية , وقد عانى المسيحييون شتى الأضطهادات من لدن الفرس وخاصة في عهد شابور الثاني ( 339 - 379 م ) . أذ أعلن حربا شعواء عليهم دامت أربعون عاما راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة ألف مسيحي بحجة موالاتهم للأمبراطورية الرومانية التي كانت تدين بالمسيحية وكان الفرس في صراع مستميت مع الأمبراطورية الرومانية . يقول أوبري فاين في كتابه " الكنيسة النسطورية " : " أضطر الكثير من سكان السهول وجنوب العراق الهرب الى الجبال النائية والى مناطق غربي الفرات ولبنان وجزيرة قبرص ... " . أن هذه الأضطهادات لم تنته بأنتهاء حكم شابور الثاني انما سار على منواله العديد من ملوك الفرس الذين خلفوه في حكم العراق وأستمرت على مدى قرنين من الزمان , تخف وطأتها حينا وتشتد أحيانا أخرى .
ثانيا - المسيحييون في ظل حكم الخلفاء العباسيين
كما هو معلوم أن حكم الفرس انتهى بمجيئ العرب حينما انتصر عليهم سعد ابن ابي وقاص في معركة القادسية عام 636 م . ان المسيحييون أبلوا بلاءا حسنا في هذه المعركة جنبا الى جنب مع العرب المسلمين وذلك ليتخلصوا من الفرس الساسانيين الذين أذاقوا المسيحيين مر العذاب وشتى الأضطهادات , ومن الجدير بالأشارة أن الذي قتل المرزبان الفارسي في معركة القادسية كان مسيحيا من بني تغلب . أن المسيحين أستبشروا خيرا بالعرب كونهم يحملون رسالة توحيدية ويعترفون بالسيد المسيح نبيا من أنبياء الله . لقد ثمن العرب الدعم الذي قدمه المسيحييون لهم في بداية عهدهم , ولم يفرضوا الأسلام عليهم - في بادئ الأمر - بل فرضوا الجزية عليهم ’ عملا بالآية 29 من سورة التوبة بحق أهل الكتاب " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " ( وكان نظام الجزية موروثا من القانون الساساني الذي طبق بحق الذين لا يدينون بالزرادشتية ) . فانتعشت أحوال المسيحيين وأزدهرت كنائسهم وأديرتهم , ووصلت رسلهم حتى أقاصي الصين شرقا . الا أن الحال لم تستمر هكذا , فقد شن بعض الولاة والخلفاء العرب اضطهادات عديدة على المسيحيين بدأ من الحجاج بن يوسف الثقفي ( 694 - 714 م ) وانتهاءا بالمأمون ( 713 - 833 م ) ألا أن الأضطهاد الأكبر كان عام 772 م على يد الخليفة العباسي الثالث أبو عبدالله محمد الملقب بالمهدي ( 775 - 785 م ) قبيل مبايعته للخلافة عام 775م بحجة أن المسيحين موالون للروم أثناء الحرب العربية الرومانية عام 770 م . فشن حملة شعواء عليهم , وسن بحقهم قوانين مجحفة لا تليق بالأنسان حدت من نشاطهم وانتقصت من كرامتهم , ومن بين تلك القوانين "" يمنع على المسيحيين الخروج والتسوق أيام الجمع , يمنع المسيحييون من ركوب الخيل ويسمح لهم بركوب الحمير فقط , يمنع الرجال والنساء من أرتداء الملابس الحريرية , على المسيحي وضع علامة مميزة على صدره , وضع علامة خشبية على أبواب دورهم , يمنع قرع النواقيس , يمنع أجراء أية مراسيم دينية في العلن , عدم السماح لأولادهم الألتحاق بمدارس المسلمين , فرض عليهم ضرائب باهضة , تدمير بعض من أديرتهم وكنائسهم ومقابرهم "" مما دفع بالكثير منهم بالهجرة والألتجاء الى المناطق التي كانت خاضعة للروم في سوريا وتركيا , كما أدت الحملة الى أسلمة الكثير منهم . وتشير المصادر التاريخية أن الخليفة المهدي غير من سيرته في سنواته الأخيرة من حكمه وبدأ يتودد لزعماء المسيحيين ولمثقفيهم من الأطباء والفلاسفة والمترجمين , وقد اشتهر هذا الخليفة بمحاوراته مع الجاثليق البطريرك طيماثاوس للفترة ( 782-785م ) .
ثالثا - المسيحييون في ظل حكم المغول
في عام 1258م احتل هولاكو مدينة بغداد وأباد من سكانها خلقا كثيرا , اما المسيحييون فلم يمسوا بسوء اكراما لزوجته دقوز خاتون ووالدته سركوتي المسيحيتان , ولهذا تنعم المسيحييون بنوع من الأستقرار النسبي في عهد هولاكو , الا أن انقلابا تراجيديا حدث عندما تولى الحكم السلطان غازان خان ( 1295 - 1303 م ) الذي أعتنق الأسلام والذي صمم على أجتثاث المسيحية من جذورها في العراق , فأمر بهدم الكنائس ونبش القبور واعتقال الرؤساء ’ وكذلك فعل خليفته خربندا خان الذي أصدر أمرا عام 1306م يقضي : " على كافة المسيحيين القاطنين في البلاد أما أن يعلنوا اسلامهم أو أن يدفعوا الخراج , ويطمغوا في وجوههم علامات مميزة , تقتلع لحاياهم , توضع علامة سوداء على أكتافهم " . يقول الراهب يوحنا الذي أرخ الأحداث في تلك الفترة : " أن المسيحين تحملوا تلك الأهانات , دفعوا الضرائب وبقوا على دينهم , وعندما رأى خربندا أن هذا لم يجد نفعا مع المسيحيين أصدر أمرا بخصييهم وأن تقلع احدى عيونهم في حالة عدم قبولهم الأسلام , ونتيجة لتلك القرارات كادت بغداد والمدائن وكشكر تخلوا من المسيحيين , فتشتت القوم في شمال العراق وتركيا . " أما كارثة الكوارث كانت يوم أحتل تيمورلنك مدينة بغداد عام 1400 م فقد أتى على البقية الباقية من المسيحيين في بغداد , ولم ينجوا الا من هرب بجلده الى القرى والجبال النائية . فاستنادا الى تقويم قديم للكنيسة الكلدانية النسطورية كان عدد المسيحيين في بغداد قبيل هذه المذابح ستة عشر ألف بيت يدير شؤونها سبعة أساقفة وخمسمائة كاهن . يقول المؤرخ ياسين العمري في كتابه " الدر المكنون في المآثر المضية من القرون " وهو مؤلف موصللي من القرن الثامن عشر : " انه كان في بغداد في زمن الغزو المغولي 56 كنيسة وأن 43 ألف نسمة يدفعون الجزية . " يقول يوسف غنيمة في كتابه ( نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق ) : " هجر النساطرة بغداد والبصرة وكل مدن العراق ما عدا الموصل وتوابعها " . وفي مطاوي القرن السابع عشر لم يبق في بغداد الا النزر اليسير .
رابعا - المسيحييون في ظل حكم العثمانيين
لقد عاشت المنطقة فترة اضطراب وقلاقل لمدة ثلاثة قرون متتالية منذ سقوط بغداد عام 1258م على يد المغول ولغاية الأحتلال العثماني عام 1534م . فأستقرت الأوضاع بالنسبة للمسيحيين نسبيا بمجيئ العثمانيين , حيث سن هؤلاء نظام ( الرعية أو الملة ) للأقوام التي لا تدين بالأسلام , فقد عاش المسيحييون في ظل هذا النظام الردئ كبقية الأثنيات العرقية في سلام هش لمدة قرنين من الزمان , وما أن حل القرن الثامن عشر حتى بدأت القلاقل والأضطرابات في ولايتي بغداد والموصل نتيجة الحروب الفارسية - العثمانية , فقد دمر نادرشاه قولي خان الفارسي ( 1732- 1743 م ) الملقب بطهماسب عددا من القرى المسيحية في سهل نينوى تدميرا كاملا وأباد من سكانها عددا كبيرا , كما تعرضت منطقة سهل نينوى الى أعتداءات مماثلة من قبل محمد ميركور أمير راوندوز - 1832م - وسليمان باشا أمير العمادية - 1836 - وبدرخان في أشيتا ومنيانيش راح ضحيتها الألاف . الا أن الكارثة الكبرى التي حلت بالمسيحيين عندما خدث أنقلاب في تركيا عام 1908 م بقيادة حزب تركيا الفتاة . اذ شرعوا قرارا عنصريا ’ أقروا فيه - سياسة التتريك - تركيا هي للأتراك فقط . أما خلال الحرب العالمية الأولى ( 1914 - 1918 ) فقد أعلن الأتراك حرب الجهاد ضد المسيحيين راح ضحيتها أكثر من ثلاثة ملايين مسيحي من بينهم خمسمائةألف من الأشوريين والكلدان والسريان .
نرى مما تقدم أن المسيحيين في العراق عبر تاريخهم الطويل تعرضوا الى اضطهادات وقتل وتشريد وتهجير , ابتداءا من شابور الثاني ( 339 - 379 م ) مرورا بالحجاج والمهدي ( 700 - 780 م ) والمغول والتتار ( 1295 - 1400 م ) ونادرشاه ( 1743م ) وأن هذه الأضطهادات تميزت بسمات وذرائع مشتركة , وهي :
أولا - ان تلك الأضطهادات خلال ألف وستمائة سنة كانت تقوم بها السلطات الحاكمة أو بأمر منها .
ثانيا - أجبار المسيحيين على نبذ ديانتهم والدخول في الزرادشتية في زمن شابور , وفي الأسلام زمن الخلفاء والأنظمة المتعاقبة .
ثالثا - الذريعة والتهمة هي موالات المسيحين للأجنبي . وكانت هذه التهمة تلتصق بالمسيحيين جزافا , وكانت غطاءا كاذبا من أجل تصفيتهم عرقيا . أن التاريخ يؤكد لنا بأن المسيحيين كانوا دائما مع الوطن , فهم أحفاد كلدوأشور وسومر وأكد وبابل , هم الأصلاء في هذا الوطن منذ فجر التاريخ , فهم أبناء العراق وليس لهم غير العراق بديلا .
أن المسيحيين يريدون العيش بسلام ومحبة وتأخي مع أخوتهم من كافة الأطياف القومية والمذهبية . ان المسيحين تأكيدا ليسوا جبناء كما يتوهم البعض , فقد أثبتوا شجاعتهم في كل المحن دفاعا عن الوطن في العصر الحديث جنبا الى جنب مع أخوتهم جميعا , بل يدعون للسلام والمحبة والتأخي وينبذون العنف بكل أشكاله .
أن المسيحيين في محنة , فهم يواجهون عدوا مجهولا , خلف جنح الظلام . يقينا سوف تندحر فلول الظلام باذن الله , طال الزمان أم قصر . سوف تبقى أجراس الكنائس تدق , وتراتيل المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة تبقى تصدح في بيوت الله منشدة الخير لبني البشر
بقلم ح . ح
مما سلف ترون أخوتي التاريخ النظيف والناصع للمنطقة.