الرد على التساؤلات
تصلني أحيانا من القراء تعليقات جادة و تساؤلات حول مقالاتي الأخيرة.. و البعض يلتقط عبارات من كتب قديمة صدرت لي منذ عشرين عاما محاولا أن يشهد الناس.. كيف كنت ملحدا ثم أصبحت مؤمنا.. ياله من تناقض و جريمة لا تغتفر لمفكر..
و يبدو أن المفكر الأمثل عندهم هو قطعة رخام لا تنتقل من مكانها، أو مستنقع أسن لا يتجدد ماؤه، أو حياة خاملة راكدة آلية لا تتطور.
و يتصور الواحد منهم الفضيلة و الذمة في أن يكتشف الكاتب خطأه فلا يصححه و لا يرجع عنه.
و يتصور الكمال في العجرفة الفكرية و الجمود و التعصب و الثبات و لو على الخطأ ( طالما أن هذا الخطأ في صالحهم).
و لو كنت مؤمنا تحولت إلى الإلحاد لأخذوني بالأحضان، و لقالوا هذا هو المفكر الشريف بحق.. هذا هو رائد النقد الذاتي.
و لكن لمّا كان نقدنا لذواتنا على غير هواهم أصابهم عمى الألوان فرأوا الأبيض أسود، و رأوا الفضيلة رذيلة، و الذمة خيانة.
و لقد حارب خالد بن الوليد ضد الإسلام بشراسة و أنزل الهزيمة بالمسلمين في أحد.. ثم آمن و حمل لواء الدعوة و أصبح سيف الله المسلول، فلم يقل أحد إنه رجل متناقض بلا مبدأ.
و حارب عمر بن الخطاب الدعوة الإسلامية في بدايتها بضراوة ثم اعتنق نفس الدين الذي سبه و سفهه و حاربه.. فلم يشكك أحد في إيمانه و لا في صدقه و لا في ذمته.
و الإنسان في شبابه مندفع بطبيعته، يؤمن بالساذج البسيط، الواضح الملموس أمامه، و لهذا فهو يستريح إلى المادية و الفكر المادي، لأنها لا تطالبه بشيء غير الموجود أمامه، فهي تبدأ من القريب المحسوس و لا تتجاوزه، و لا تجهد الذهن استخلاصا للحكمة من ورائه.. بل إنها لا تعتقد في وجود حكمة.. لا شيء سوى المادة التي تتطور تلقائيا بقوانينها الجدلية الخاصة.
و المفكر المادي لا يحاول حتى أن يسأل نفسه من الذي وضع في المادة قوانينها الجدلية هذه.
و هو يرفض الدين لأنه غيبيات.
و هو نفسه غارق في الغيبيات إلى أذنيه.
بل إن العلم نفسه الذي يتشدق به و يحتكم إليه غرق في الغيبيات هو الآخر.
العلم يتكلم عن الإلكترون على أنه حقيقة.. و لم يرى أحد الإلكترون.. و لا نعلم عن الإلكترون إلا آثاره.. أما الإلكترون ذاته فهو غيب.
و بالمثل الموجة اللاسلكية لا نعلم عنها إلا آثارها في عمود الإرسال و جهاز الاستقبال.. لم يرى أحد تلك الموجة الأثيرية و لم يعرف أحد كنهها.
بل إن الكهرباء ذاتها هي الأخرى طاقة لا شك فيها و مع ذلك فهي مجهولة الهوية تماما.. و لا نعرف عنها إلا مجموعة آثارها الظاهرة من حرارة إلى ضوء إلى حركة مغناطيسية.
فإذا قلنا لهم إن الله بالمثل عرفناه بآثاره و إن هويته غيب لم يعجبهم كلامنا.
بل إن المفكر المادي يقول في جرأة عجيبة.. (( في البدء كانت المادة ثم تطورت المادة إلى كافة صور الحياة و الفكر )) و كأنه كان موجودا لحظة بداية الخلق متربعا في كرسي بلكون يتفرج على ميلاد الدنيا.
هو يتكلم عن غيب و يبدأ من غيب.. و لا يملك إلا افتراضات و احتمالات و نظريات.. ثم يتهمنا بالغيبية.
و هؤلاء هم دراويش المادية لا وسيلة لإقناعهم، لأنهم لا يريدون اقتناعا.. و إنما هم اختاروا الجمود العقائدي و تشنجوا عليه، و استراحوا إلى ما فيه من تبسيط مخل و تلخيص ساذج للحقائق الكونية..
و ليس أبعث للراحة من اعتقاد الإنسان أنه لا مسئولية هناك، و لا بعث و لا حساب، و أن له أن يفعل ما يشاء لا رقيب عليه و لا حسيب سوى البوليس و المخابرات.
و مثل هذه العقيدة المادية أقرب إلى قلب الشباب المندفع الذي يريد أن ينطلق على هواه بلا علامات مرور، و بلا ضوابط، و بلا مساءلة.
و ليس صحيحا أن الفكر الإلحادي المادي هو الذي أعطانا حياتنا المتقدمة بما فيها من قطارات و عربات و طائرات و صواريخ و راديو و تليفزيون.. فهذه الأشياء هي عطاء العلم.. و العلم تراث متاح للكل.. و لا مذهب له.. يطلبه رجل الدين كما يطلبه رجل الفكر من يمين و يسار.
كان العلم يرفع راياته في مصر الفرعونية الوثنية كما كان يرفع راياته في صدر الإسلام.
العلم تراث بشري لا يستطيع أن يدعي أحد ملكيته و ليس صحيحا أن الدين يناقض العلم.
و ديننا يأمر بالعلم في أول آية من القرآن (( اقرأ )).
أمر صريح بالعلم و التعلم في أول حرف نزلت به تعاليمنا السماوية.
و العلماء عندنا هم ورثة الأنبياء، و هم في القرآن في درجة الملائكة (( شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم..)) (18 - آل عمران)
و الذي يتصور تناقضا بين الدين و العلم لا يعرف ما الدين و لا ما العلم.. و إنما يريد أن يختلق لنفسه مبررا للرفض. و ما أسهل الرفض.
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك!
اذا كان احد قد اعترض طريقنا فمن المحتمل ان نكون نحن قد اعترضنا طريق شخص ما.
فأنا التى اخترت منذ البداية ان اخسر العالم كله على أمل ان اربح نفسى.
|