الموضوع: وتستمر الحياة
عرض مشاركة واحدة
قديم 26/09/2006   #28
صبيّة و ست الصبايا فلسطينية الشتات
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ فلسطينية الشتات
فلسطينية الشتات is offline
 
نورنا ب:
Sep 2006
المطرح:
مخيم لاجئين، في ارض الشتات
مشاركات:
328

افتراضي سيدي عادل


اليوم أضع بين أيديكم حالة خاصة، من حياتي انا من عائلتي انا
سيدي العزيز (جدي)، عماد عائلتنا ورمز الحياة فينا
أتمنى أن تعجبكم الخاطرة التالية، وتعطيكم لمحة عن حياتي


*****************
سيدي عادل


جدي {سيدي عادل}، ذلك العظيم رغم كل الصعاب، كان جدي بالنسبة لي عملاق ترتفع هامته بعيداً، يجسد القوة بكل معانيها، فمنذ فتحت عيناي على هذه الدنيا وبدأت أدرك ما يحيط بي؛ كنت أرى وأسمع جدي دائماً يتحدث والكل يصخي السمع، كان جباراً معتداً بنفسه، لم يرضخ يوماً لغرور الحياة وإغراءاتها الكثيرة، منذ صغره كان كبيراً هكذا قالت لنا أمي، فقد رباه والده على الخشونة منذ نعومة أظفاره، حيث كانت عائلتنا على مر الزمان عائلة مكافحة تصنع ذاتها وتشق طريقها في صخر الحياة بقوة الساعد ورجاحة العقل وعلى قدر ما كانت هذه العائلة الرائعة مهابة الجانب عزيزة الحما على قدر ما كانت رؤوفة بالناس رحيمة بهم شغوفة بالأرض محبة للناس.

لعلكم تتسائلون الآن كيف لي أن أعرف هذه الصفات وأنا لم أرها بعيني ولم أتعايش مع جدي الزمن الكافي الذي يؤهلني لسرد هذه الكلمات؟، إلاّ أن الإجابة بسيطة جدا، إن ما رأيته وسمعته وعشته بالقرب من جدي على مدى أيام عمري القليلة مقارنة بعمره هو ما دفعني لهذا الكلام، فجدي رغم كل ما عرض عليه من مناصب أبى إلاّ أن يظل أبو حسني المتواضع حتى لا ينجر وراء منصبه ليكون فيما بعد تابعا لأهواء أصحاب الأمر والنفوذ، عرض عليه أن يكون وجيه الوجهاء ورفض، عرضت عليه المخترة ورفض، إلى أن قالوا: نريدك مختار المخاتير كلهم، وهنا أبت عزة نفسه وكبريائه إلا أن تظلا طليقتين، وبرغم رفضه بقي فوق الكل ومقصد الجميع، يأتيه الناس من كل صوب وحدب، يأتونه بكل مشاكلهم ومسراتهم، في أفراحهم وأتراحهم.

حيناً ترى جاهة من الجنوب تسعى لتراه فقط ليسير في خطبة ابنهم، وحيناً آخر تكون من الشمال تسعى إليه ليسير في صلحة لهم، وأغلب الناس يأتونه دون معرفة مسبقة إنما لكثرة ما سمعوا باسم الحاج أبو حسني (من مخيم البقعة)، صورة جدي تلك ظلت حاضرة معنا على الدوام؛ لتذكرنا بعهد قد مضى، وتزرع فينا انتماءنا الأبدي لوطننا الحبيب. فبعيداً عن الوطن هنا في أرض الشتات نعيش قصة الوطن في بحر من القصص يردفنا بها الجيل الأول.

جدي، ما أعظمك يا جدي طويت من العمر 86 عاماً وأنت تبصر الأرض وتحملها في وجدانك وذاكرتك، غرستها فينا لتمتد من بعدك، كم من مرة أجلستنا وأخذت تتحدث عن الوطن: "يا سيدي فلسطين جنة، انتوا ما عرفتوها بس احنا عرفناها، بكينا نطلع من الصبح على الأرض، ومعنا الراعي يرعى شلايا الغنم، ننزل من الخربة الفوكة للخربة التحتة..."، تلك كانت بضع من كلمات اذكرها وقد حفرت في القلب والعقل، ترافقها صورة جدي ومئات من المشاعر والسنين تمر على صحفة وجه التي جعدها الزمن وتتلألأ عيناه ببريق حاد يوصله إلى البقعة وذكريات التشرد واللجوء.

بالرغم من سنين عمره الكثيرة إلا أن ذاكرة جدي ما زالت محصورة بتلك الأيام، فيتحسر على أيام البلاد ويتأوه وجعاً يلفظه زفرات في كلمات نازفة في عمق قلوبنا، من كلماته عرفنا معنى الوطن وذقنا معنى الحرمان والتشرد، عرفنا كيف وصلنا إلى ما نحن فيه، كيف كنا وكيف أصبحنا؟؟!!.

جدي ذلك التاريخ المتحرك، كتاب حفرت في صفحات ذاكرته قرن من الزمان، سردها لنا على مر الأيام حكاياتٍ وأهازيج، غرست فينا الحب والعطاء ونمّت فينا العزة والأنفة، إلى أن شاء القدر أن يكسر هذه الصخرة الجبارة، الصخرة التي جابهت كل الظروف وأحلك الأيام، لم يستطع أن يهزمها شيء إلى أن جاء غدر الحياة، فكان المرض قاسياً كسر نفسه وحطم روحه، أفقده كل شيء وجرده من كل شيء، بات هيكلاً يصارع الموت أمام أنظارنا، في كل يوم يموت ألف مرة وفي كل مرة تتوق روحه للأرض والوطن.

جدي، يا نفحة من روح الأرض، يا تاريخاً يحملنا بصفحاته نجوب الماضي لنستلهم منه طريق المستقبل، تركتنا عقلاً وبقيت هيكلاً ينتظر الموت، فقدناك جدي وما زلت بيننا، كم يهزنا الاشتياق لصوتك مدويا مزلزلا في ارجاء بيتنا، تحت الدالية هناك تروي عشق الأرض حبيبات عرق تداعب جبينك وتتسابق تسقي تراب الأرض، جدي يا من خلقت من قهرك بقاءك ومن منفاك وطنك، أقول لك:

لا بد أن نعود
فطريق العودة قريب
وطريق التحرير قريب

أما أنت....
فمنها خرجت... وعلى أمل العودة حييت
ولكن...

أسفي عليك جدي..
مرت الأيام... ومرت السنين
وما زلت في انتظارك مقيم
والآن ترحل بطيئاً... يحدوك الأمل البعيد
ولكن...

وإن رحلت جدي، فنحن باقون..
وعلى خطاك سائرون...
ولأرض الوطن عائدون......

شاؤوا أم أبوا....
نحن عائدون....
وبنا ستعود..

فنحن منك وامتداد بقائك.....

ارحل جدي ونم قرير العين...
فمن بعدك جيل عائد...
لا بد أن نعود...

ساعة الرمل لا تحب الاستلاب
كلما أفرغها الوقت من الروح
استعادت روحها بالانقلاب

*********

لم يكن الفن يوماً إلا جزءاً
من الكبرياء القومي عند الشعوب
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05878 seconds with 11 queries