من التقرير إلى غريكو
حياتنا كلها ارتقاء
لقد كانت أحلامي وأسفاري هي أهم الأمور المفيدة في حياتي. لم يساعدني في كفاحي إلا القلة من الناس (الأحياء والأموات). ولو أنني حاولت أن أحدد الناس الذين تركوا آثاراً عميقة في نفسي، لحددتُ هوميروس وبوذا ونيتشه وبيرغسون وزوربا. فالأول، بالنسبة لي، هو العين الأخاذة، مثل قرص الشمس الذي ينير الكون ببهائه الشافي، وبوذا هو العين القاتمة عميقة الغور التي غرق العالم فيها ثم نجا. وساعدني بيرغسون على الخلاص من العديد من الاشكالات الفلسفية التي حيرتني والتي كانت تقض مضجعي في أيام الشباب. أما نيتشه فقد أغناني بعذابات جديدة، وعلمني كيف أحول الفشل والمرارة والشك إلى كبرياء. أما زوربا فهو الذي علمني أن أحب الحياة وأن لا أخاف من الموت.
شيء واحد كنا نلاحقه طوال حياتنا: رؤيا قاسية لاحمة صامدة ـ الجوهر. كان للجوهر أسماء عدة: كان يظل يغير أقنعته طالما نحن نتابعه، أحياناً كنا نسميه الأمل الأسمى وأحياناً اليأس الأسمى، أحياناً ذروة الروح البشرية وأحياناً سراب صحراء، أحياناً الطائر الأزرق والحرية وأحياناً، أخيراً، كان يبدو لنا مثل دائرة مغلقة مركزها القلب البشري ومحيطها الخلود، دائرة أطلقنا عليها اعتباطاً اسماً ثقيلاً محملاً بآمال العالم ودموعه كلها:" الله"... في داخل كل رجل متكامل، في سويداء قلبه، مركز غامض يدور حوله كل شيء آخر وهذا الدوران الغامض يوحد بين أفكاره وأفعاله، ويساعده على العثور على الانسجام الكوني أو اختراعه. هذا المركز بالنسبة للبعض هو الحب ولآخرين اللطف أو الجمال ولغيرهم التعطش للمعرفة أو التوق للذهب والسلطة. إنهم يتفحصون القيمة النسبية لكل شيء آخر ويلحقونها بهذه العاطفة المركزية. ويا لتعاسة الإنسان الذي لا يحس بنفسه محكوماً في داخله من قبل سلطان مطلق، فحياته غير المحكومة والمشوشة تبعثرها الرياح الأربع.. ومركزنا، يا جَدّي، المركز الذي اجتاح العالم المرئي في عصفه والذي كافح للسمو به إلى أعلى درجات البسالة والمسؤولية كان المعركة مع الإله، أي إله؟ الذروة القاسية لروح الإنسان، الذروة التي نحن دائماً على وشك الوصول إليها والتي تقفز دائماً على قدميها وتصعد أعلى فأعلى." وهل يتقاتل الإنسان مع الله؟" سألني بعض المعارف ساخرين ذات يوم. وأجبتهم:" ومع من غيره تتوقعون من الإنسان أن يتقاتل؟" فعلاً. مع من غيره؟. لهذا، يا جَدّي، كانت حياتنا كلها ارتقاء، ارتقاء وجرفاً وعزلة. لقد انطلقنا مع العديد من رفاق الكفاح والعديد من الأفكار في موكب عظيم. ولكن فيما كنا نصعد وفيما كانت الذروة تنتقل وتصبح أبعد فأبعد كان رفاق الكفاح والأفكار والآمال مواظبين على توديعنا، تتقطع أنفاسهم فلا يعودون راغبين أو قادرين على الصعود أعلى من ذلك. وظللنا وحيدين وعيوننا مثبتة على (الجوهر المتحرك)، الذروة المتنقلة. ولم يتسلط علينا الصلف ولا اليقين الساذج بأن تقف الذروة ذات يوم وتثبت وبأننا سنصلها، ولا حتى الاعتقاد بأننا إذا ما وصلناها سنجد هناك في الأعالي السعادة والخلاص والفردوس. كنا نرتقي لأن فعل الارتقاء ذاته بالنسبة لنا هو السعادة والخلاص والفردوس. إنني أعجب للروح البشرية: ما من قوة في السماء أو الأرض لها عظمتها. دون وعي بالأمر نحن في داخلنا هذه الطاقة الجبارة. إلا أننا نرهق أرواحنا بأثقال من اللحم والشحم ونموت دون أن نعلم ما نحن وما نستطيع إنجازه. أهناك قوة أخرى على الأرض تستطيع أن تنظر إلى بدء العالم ونهايته مباشرة دون أن يصيبها العمى؟.
آخر تعديل butterfly يوم 24/11/2006 في 10:10.
|