الجزء الثاني
"نظام الكنيسة أعلن حرباً لا هوادة فيها على العلم واتباع سبيله، قضى في سبيلها على آلاف العلماء والباحثين، وجعل من البحث العلمي جريمة أخطر من جريمة الإلحاد بالله عزّ وجلّ؛ بينما يقضي نظام الإسلام بإعطاء الريادة في المجتمع للعلم وأهله، ويجعل من البحث العلمي أقدس عبادة يتقرّب بها المتعلّم إلى الله إن حسنت في ذلك نيّته وحسن قصده".
الإسلام لم يقض على العلماء والباحثين لسبب بسيط: حتى الآن لا يوجد في الإسلام لا علماء ولا باحثون؛ اللهم إلا إذا اعتبرنا العوالم الذين يسمّونهم علماء، أي المشايخ، منظّري الاستجمار والاستنجاء وختان البنات، من مصاف لافوازيه وديدرو وبافلوف. من ناحية أخرى، فالتاريخ يشهد أن ما من فرد أو جماعة حاولوا التفكير بما يخالف ضوابط التكفير إلا وتصدّت لهم طغمة الاستجمار والاستنجاء والخرطات التسع. ولأن ذاكرة العرب مثقوبة للغاية، يكفي أن نذكّر بأسماء من نمط فرج فودة ومهدي عامل وحسين مروّة ونجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد.. لماذا نذهب بعيداً، فلولا عناية أحد الآلهة لكنّا الآن في مكان غير مرغوب فيه كثيراً بعد أن حفي البوطاني على أبواب الفروع الأمنيّة محذّراً القائمين على الأمور من الفتنة الطائفيّة التي يمكن أن يحدثها كتابي: يوم انحدر الجمل من السقيفة؟
ثالثاً: الإساءة للطوائف الإسلاميّة من غير أهل السنّة والجماعة
ضمن الهراء المشار إليه آنفاً، لا يخجل البوطاني عن مدّ يده الموميائيّة إلى طوائف الشيعة بابتذال لا يحسد عليه؛ ويدرّس ذلك طبعاً. وفي الصفحة الرابعة بعد الأربعين من هذا العمل الأكاديمي غير الفتني؛ يقال عن الشيعة [لا يجرؤ البوطاني على الإشارة إلى العلويين بالاسم لا من قريب ولا من بعيد، لأنه يعرف أن بعضهم لا يكتفي بالختان؛ لكنه يستطيع إدخالهم براحة ضمن الشيعة والخوارج]:
"على أن هذا الذي بدأ بدافع ديني كما أقول، لم يلبث أن غدا فيما بعد، ذريعة لكلّ ذي مطمح سياسي، أو نزعة إلحاديّة، أو هوى جانح عن سبيل الحق. فغدت هذه الفرق بذلك مطايا لأصحاب الأغراض وأولي الانحرافات على اختلافها. وأنت تعلم أنّ دعاة السوء والزيغ، لا يستطيعون أن يتسلّلوا إلى المجتمع الإسلامي المتماسك، إلاّ من نوافذ هذه الفرق وأمثالها إذ يتمادى بها الجدل والصراع، فتنحرف عن الجادّة ربما دون أن تنتبه إلى أنها انحرفت عنها. فتتفتح من ذلك ثغرة. وما هو إلاّ أن ينحطّ فيها ويتسلّل إليها المتربّصون، من أولي الزيغ، تجّار الزندقة والضلال".
وفي الصفحة ذاتها، يأخذنا البوطاني إلى نتيجة علميّة لا غبار عليها، بشأن هؤلاء الكفّار الوقحين الذين يصرّون على المواطنة في بلد البوطاني، أي الشيعة ـ يقحم معهم الخوارج كالعادة ـ تقول:
"ومن الجلّي أنه لا دخل للعلم في نشأة الخوارج والشيعة، بل ولّدتهما العاطفة السياسيّة، ثم اندسّ فيهما خصوم الدين من الزنادقة، فتطوّرتا أطواراً شائنة".
رابعاً: البهائيّة والأحمديّة
رغم كتابتي قبل زمن ليس بالقصير مقالات بحثيّة عن الحركتين البهائيّة والأحمديّة [يسميها البوطاني القاديانيّة ليس دون تحقير] إلاّ أني لم أخرج قط عن الأعراف النقديّة المحترمة في مقاربتي للحركتين، بل إن كتاب شكر جاءني من لندن، من أمير الجماعة الأحمديّة، على ما نشرته عن الحركة، رغم ما فيه من استعراض نقدي؛ ولو أن هذا البوطاني كان يفقه حرفاً واحداً في لاهوت هاتين الجماعتين، أو لو أنه استعرض نقديّاً ما صدر عن الأحمديين والبهائيين من آراء، لكنا وقفنا له احتراماً؛ لكنه لجهله وتعصّبه، اكتفى بأن يطرح على المعتوهين الصغار ممن يصدّقونه معلومات حول الطائفتين لا ترقى أبداً لسويّة الشتائم المهذّبة؛ يقول أستاذ الشريعة حول البهائيين:
"وإنما تقوم ديانتهم وأفكارهم الخرافيّة الكافرة على التفسيرات والاستنباطات الباطنيّة والإشارية التي لا تعتمد على منطق ولا لغة ولا مقياس من مقاييس النظر والعلم " ( ص 88 ).
لا يفلقنا بالمناسبة سوى تشديد تلميذ أبي هريرة والبخاري وكعب الأحبار على النظر والعلم.
بالمقابل، فهو يقارب الأحمديين، كباحث هام، على الطريقة التالية:
"ولم يزل على حاله [غلام أحمد القادياني، مؤسّس الحركة] تلك ويكذب على الله وأنبيائه، ويضع نفسه للناس موضع عيسى بن مريم عليه السلام، إلى أن رماه قضاء الله تعالى بالهيضة (داء الكوليرا) ومات في بيت الخلاء ساقطاً على وجهه، فكان موته عبرة لأولي الأبصار". (ص 89).
لمن لا يعرف، فإن أمير المؤمنين المتكّل على إلهه العباسي، محيي السنة ومميت البدع، الذي فرض بالحذاء التيار الفكري (؟؟؟) الذي ينتمي إليه البوطاني إياه، قتل مخموراً في أحد مواخيره على يد ابنه.
خامساً: الفلسفات الحديثة.
كم يبدو مثيراً للقرف أن يمدّ أصولي بوطاني مفعم بعقد كراهية الآخر يده إلى التراث الوجودي العظيم، فيطال سادة الوعي في غرب الحضارة بألفاظ لا تصدر عن أجهل الكائنات. كم تبدو الحضارة مغتصبة حين يفكّر بدوي جاهل بمدّ يده الحاقدة إلى هايدغر العظيم، رمز الثقافة، في أمة المثقفين: ألمانيا. زمان، ترجمتُ كتاباً لهايدغر العظيم، صاحب الكينونة والزمان، اسمه ماهية الميتافيزيك، لكني لم أنشره، لأني استأسفت أن أنشر جواهر فيلسوف الكينونة لشعب مفكّروه البوطي وقرضاوي ومتولّي شعراوي.. وزيزي مصطفى: وخيراً فعلت.
عن الوجوديّة؛ يقول هذا العلاّمة: "فأي طالب من الطلاّب الخائبين في قسم الفلسفة من جامعة ما، يخلط هذا الخلط العجيب بين الماهيّة والصفات، ويبادل التعبير بهما عن الخبرات والإمكانات التي يكتسبها الإنسان؟" (ص 18 .
"ولكن من البلاء الأطم أنهم يصنّفون أنفسهم مع فلاسفة، ويخاطبوننا على هذا الأساس، ويريدوننا أن نفهمهم على هذا الاعتبار. وها نحن قد حاولنا فهمهم على هذا الاعتبار، فما رأينا إلاّ كلاماً متهافتاً وأحلاماً تستعصي على الواقع وألفاظاً تطلق على مدلولات لم يقل بها فلاسفة ولا علماء ولا مناطقة من قبل". (ص 194).
عن المفكّر المصري الوجودي؛ يقول البوطاني إنه "الذيل التابع لهم". (195).
أمّا سارتر، الذي ساند الثورة الكوبيّة، وحارب ضد بلده لأجل استقلال الجزائر، وقاد مظاهرات الطلاّب في فرنسا ضد قمع العسكر، ورفض جائزة نوبل للآداب باعتبارها صادرة عن هيئات بنظره غير محترمة، فيقول عنه صنيعة الأجهزة في أصعب زمن مرّ على سوريّا: "إن نظرة سطحيّة واحدة إلى مظهره.. تدلّ على أنّ الرجل منغمس في نقيض هذا المبدأ الذي يعلن عنه ويدعو إليه". (196).
وهكذا، ينتهي هذا العلاّمة إلى أن الوجوديّة ليست غير "فلسفة عجيبة مضحكة". (ص 221). وكفى المؤمنين شرّ القتال.
نلاحظ هنا أن البوطاني لا يقترب من هايدغر أبداً، ربما لأن الألماني العظيم بحاجة كي يُفهم إلى سويّة عقليّة، خاصة في الكينونة والزمان، غير متوفّرة عند شيخ كليّة الشريعة الأشهر.
عن الماركسيّة، التي لم يتنطح أي من الرفاق أنصارها الذين يملأون أجهزة الإعلام هذه الأيام ضجيجاً بالردّ، يقول جهبذنا ما يلي:
"لن نهدف من هذا النقد، إلى الحديث عن القيمة العلميّة لفلسفة "الجدليّة = الدياليكتيك" خلال أطوارها المختلفة. ذلك لأنها بدءاً من عهد هيراقليط إلى أن استقرّت بطورها المثالي عند هيجل، قد تحوّلت إلى مجرّد متكأ أقيمت عليه الفلسفة الماديّة الماركسيّة، التي أخذت تشغل بال كثير من السطحيين أو من دعاة المصالح والأغراض" (ص 10 .
نترك التعليق للرفاق من الحزب الشيوعي السوري، دكّان المرحوم بكداش، فهم الأقدر على الرد على ابن جلدتهم.
سادساً: العلمانيّة
مما لا شكّ فيه أن الأخوات منيرة القبيسي وسحر حمدي وزيزي مصطفى وسهير البابلي حتى آخر قائمة أمهات ـ نعتذر من القبيسيّة لأنه يفترض أنها آنسة جدّاً ـ مؤمني القرن الحادي والعشرين، يعرفن تماماً أن العلمانيّة مشتقة من العالم؛ بل إن بقرة جميلة استنكرت قبل أيام على أحد تلاميذ كليّة الشريعة ضحالته العلميّة حين قال غير ذلك؛ وإذا عرف السبب بطل العجب؛ فهذا التلميذ الأنجب الذي أزعج البقرة الجميلة بجهله قرأ التعريف التالي في كتاب البوطاني التحفة:
"أصل هذه الكلمة نسبة على غير بابها إلى العلم". (ص 247).
ولأننا علمانيون، ولأننا لسنا بعثيين ـ الذين يفترض أنهم علمانيون ـ فالجروح تؤلمنا، نقول إن النص التالي من كتاب البوطاني، لو كنّا في بلد يحترم حقوق الآخر، لكان يمكن أن يوصل صاحبه إلى أقرب سجن غير محترم:
كفرت بكل الأديان والرب غير موجود
ومريم ليست بعذراء ومحمد مدعٍ أفاق
ونعم للإلحاد ونعم للعقل
3/6/2007
|