أغاني مهيار الدمشقي ..فضاء للشعر والمسرح
المخرج كريم رشيد
يقدم قصائد أدونيس مسرحيا
أغاني مهيار الدمشقي ..فضاء للشعر والمسرح
د. حسين الأنصاري - السويد
إذا كان الشعر هو جهد لأعادة بعث اللغة أو لأفناء المألوف منها واختراع لغة جديدة تقصي الزمن والتأريخ المتمركز فيها، كما يذهب إلى ذلك (مرسيا الياد) فأن تحويل الشعر إلى المسرح، مسرحته يفتح أمام القصيدة آفاقا جديدة ويمنحها كينونة أخرى في فضاءات متخيلة تتوالد عبر نصوصها قوى احتمالية وعلاقات متشابكة تضاعف مديات التعبير والتخيل والتوليد الدلالي الذي تحققه تقنية التجسيد واللعب وتسهم في إعادة إنتاجها مستويات القراءة والراهنية التي يتيحها خطاب العرض وعلاقته المباشرة بالمتلقي.
أسوق هذه المقدمة لتكون مدخلا لقراءتي للسيناريو وللعرض المسرحي الذي شهده مسرح
Kirseberg Teater في مدينة مالمو السويدية ثم استضافه متحف الثقافة Kulturen في مدينة لوند.
العرض مستمد من قصائد (أغاني مهيار الدمشقي) للشاعر العربي الكبير أدونيس، حيث قُدم باللغة السويدية,ترجمة هشام بحري و الشاعران السويديان Ingemar & Mikaela Leckiusوكان العرض من إعداد وإخراج الفنان العراقي كريم رشيد وتمثيل كل من:
Nina Hope, Maria Vel, Petra Oesch , Elianor Morge, Midia.
يؤكد أدونيس أن الشعر لا ينتهي، يظل مشروعا قائما وان وعي الشاعر لا يرتبط بالتأريخ أو الماضي، بل يبدأ من الذات اليقظة المتقدة بالوعي والاستباق.
وفق هذا المنظور تتشكل ملامح البحث النصي لدى الشاعر، تدعمه موهبته العالية وخصوصيته المميزة التي تتجلى بلغة مكثفة ورؤية عميقة وشعرية طاغية تستند إلى الموروث الحضاري من جانب ولصور الحداثة ومضامينها الكونية من جانب أخر، وهذا كله يقودنا إلى أن النص الأدونيسي فلسفة يشكلها الشعر وشعر تعمقه الفلسفة. ويتجسد هذا الوصف واضحا في مجموعته الشعرية (أغاني مهيار الدمشقي) التي يتجاوز فيها البناء اللغوي الشكل الكتابي إلى ابتكارات فنية ولغوية وفلسفية، صياغات يصعب الإمساك بها، لا تمنح ذاتها بيسر، مفردات تتلبس الغموض وتنأى في الرمز والفراغ المقصود. ومن هنا تأتي صعوبة التلقي لهذه النصوص ما لم تُملأ فجواتها بالخيال البصري والتجسيد المرئي على خشبة المسرح وبما يحقق التواصلية بين أنظمة العرض ومستقبليه، وهذا ما سعى إليه معد ومخرج العرض كريم رشيد الذي وجد في أعاني مهيار الدمشقي ما ينسجم ومبتغاه الفكري والجمالي لما تختزنه من أسرار ورؤى ذهنية ونفسية ولغوية تتفاعل مع العالم ومكوناته.
اختلف نص العرض عن بنية القصيدة الأصل، فالحوار الدرامي الشعري له شروطه ومقتضياته الخاصة، وهذا ما عمل عليه المعد والمخرج عبر إخضاع النص الشعري الأصل للانتقاء والترحيل والتبديل والاختيار المناسب لما يتفق والبناء الفكري والدرامي عبر تكوينات سمعبصرية تمازجت فيها الرؤية الشعرية والمواقف النقدية والأشكال الجمالية، لكنها في الوقت ذاته لم تتجاوز نبع النص الأصل، المتدفق برموزه واستعاراته وغرائبيته وإيحاءاته، إنه تأثيث بحساسية جديدة، يتداخل فيها الأسطوري مع التاريخي والواقعي مع الخيالي تحركها شخصيات أستولدها المعد من بنية النص- البولوفينية – فإلى جانب شخصية مهيار المحورية تطالعنا شخصيات أخرى شكلت بمجمل علاقاتها وتمثلاتها الحركية والصوتية مستويات تعبيرية متنوعة ضمن الصياغة المسرحية للقصائد الشعرية. إن معاينة السيناريو المُعد سرعان ما تحيلنا إلى نص جديد، بل أنه نص داخل نص، كتابة تنتج شعريتها الخاصة وفق منطق (المسرحة) تقوم على سياق علامات تماثلية تحيط بمدونة النص اللفظية، تحولت إلى نصوص مجاورة أو أنساق موازية استمدت خصائصها السيميائية من إمكانات الخطاب المسرحي حيث يغدو المشهد وبمختلف نصوصه(شخوص،لغة،أزياء،موسي ى،حركة، تشكيل،رقص،إضاءة،وغيرها) يغدو غابة من العلامات الاستدلالية والجدلية في التكوين المسرحي، وهذا ما يتفق مع رأي (( كير إيلام)) الذي يشير إلى أن القدرة التوليدية الفعالة التي يملكها الدال المسرحي تعود جزئيا إلى أتساع دلالاته المصاحبة، وهذا ما يفسر لنا التعدد الدلالي لخطاب المسرح الذي ينفرد عن النص اللغوي بفعل ديناميته وتحولاته مما يجعل تحثثه ماديا وإدراكه عيانيا مباشرا. وهذا ما توفر عليه السيناريو بمختلف لوحاته التي لم تبارح البنية العميقة للشعر وثيماته المتعددة التي تنتجها طبيعة النص المفتوح.
إن أعاني مهيار الدمشقي تقدم طروحات فكرية عميقة صاغها أدونيس بوعي تاريخي متأملا فيها الواقع ومستشرفا المستقبل. ثم جاء النص المعد مسرحيا ليقدم ميكانزمات كتابة درامية تستهدف تثوير العقلي والجمالي معا وتحمل أسئلة صعبة ومستفزة، فمهيار الشاعر،الحالم،القلق، المتمرد،المحتج،الثائر،يسع ى لتأسيس عقلانية جديدة في التعامل مع الواقع وتفكيك آلياته وفق رؤاه الذاتية ومنظوره الخاص المتمرد.
- انه الريح لا ترجع القهقرى
والماء لا يعود إلى منبعه
يخلق نوعه بدءا من نفسه
لا أسلاف له
وفي خطواته جذوره
يمشي في الهاوية وله قامة الريح.
يتخذ الشاعر من مفردة ((الحجر)) رمزا أثيرا ويجعل منها مركزا للتشفير الدلالي الذي يهيمن على فضاء النص، فتتكرر المفردة عبر مقاطع عديدة في قصائده، وضمن تحولات النص بما يعمق دلالة وإيماءات المفردة ذاتها التي تتنوع عبر النص الذي أعده كريم رشيد عن قصائد المبدع الكبير أدونيس ليقدم صورة مسرحية مكثفة لأزمة إنسان العصر وعذاباته في عالم لا تتواصل فيه ولا منطق غير أن هذا الإنسان المأزوم لما يزل يقاوم، يحلم، ويتحدى:
- هاأنا أتسلق
اصعد فوق صباح بلادي
فوق أنقاضها وذراها
هاأنا أتخلص من ثقل الموت فيها
هاأنا أتغرب عنها ، لأراها
فغدا قد تصير بلادي.
شعرية الفضاء في العرض المسرحي
فضاء المسرح عار إلا من تلك الأضواء المعلقة التي توحي وكأنها نجوم وسط سماء صحراء، تعمد المخرج إقصاء قطع الديكور الثابتة ورفع الستائر والكواليس عن منصة العرض متشبثا بعري الخشبة وانفتاح فضائها ليقيم بذلك مقاربة مكانية مع المكان المتخيل حيث الصحراء وأتساع مداها. ابتع العرض عن بهرجة ومدونات السينوغرافيا الجاهزة واتخذ من جسد الممثل عنصرا أساسيا في بناء تكويناته الدلالية, وكان يمكن تشغيل تلك الأضواء المعلقة بوصفها رمزا ذا دلالة مزدوجة جمالية /فكرية ضمن الفضاء المسرحي لا أن تظل علامة أيقونية رغم التحولات الزمكانية في العرض.
يطالعنا المشهد الاستهلالي بانسحاب البساط الممتد في وسط خشبة المسرح ناحية الجمهور، فينسل أمام مهيار مثل طريق يضيع، ثم تتواصل اللوحة البصرية حيث يجلس مهيار ساكنا متأملا بينما تدب الحركة في جسد راقصتين تنهضان مع إيقاع موسيقي غنائي لتشكلان لوحة خلفية راقصة بنمطين مختلفين من الرقص التعبيري، هذا التباين الذي يعمقه المخرج من خلال الحركة التعبيرية واستثمار مفردات سينوغرافية مثل الحبال ووشاح كبير يربط بين جسدي الراقصتين ، رابط تتنازعان حوله في الوقت الذي يوحي بصلتهما ببعضهما برباط مثل الحبل السري، عزز ذلك ما لحظناه من تباين في تصميم الأزياء حيث تتسم ملابس الأولى برموز مشرقية فيما طغت الرسوم التجريدية والألوان الباهتة والأشكال المموهة على زي الراقصة الثانية.أما مهيار فقد زينت الحروف العربية والأشكال التجريدية زيه المشرقي الملامح وكأننا بمهيار قد توحد مع الحرف في تشكيل جسدي واحد.
فضاء العرض يمتد خارجا إلى ما هو خارج الحيز المرئي للمشهد، مستوى علويا حيث تهيمن القوة وآخر أرضيا حيث يقيم البشر مع عذاباتهم الأبدية. تناقضات وصراعات محورها ومادتها الإنسان.
ومن أجل توليد المزيد من الدلالات ينوع المخرج بإيقاع اللوحة الأولى بنزول عشرات الكرات البيضاء الصغيرة من أعلى فضاء المسرح، تظل تتقافز على الخشبة لتبدو وكأنها تمثلا عيانيا لأفكار وهواجس مهيار الذي هو الشاعر نفسه أدونيس. وما أن تهدا الكرات من قفزاتها حتى يفاجئنا هبوط المرأة/القصيدة وكأنها قادمة من كوكب علوي، أنها القصيدة بكل تلاوينها ..صوتا وحركة ،إيقاعا وألوانا، تحاور الشاعر/ مهيار، تستنطقه وتصبح ندا له. تحيلنا بحركاتها التعبيرية الغرائبية الراقصة التي تجسد صورة (الجسد،المرأة ،الأفعى، الفكر) هواجس الشاعر بأسراره وأحلامه وأسئلته التي تواجه عالما غريبا وعصرا يظلله السراب.
كانت المرأة/القصيدة هي المحفز الذي يدفع مهيار على مواصلة مشواره التأملي وارتحالاته الفلسفية وأحلامه بالقادم الأفضل، وذلك ما حاول المشهد البصري تجسيده من خلال تعامل مهيار مع تلك الكرات الصغيرة التي تحيط به حيث يجمعها في حقيبته البدوية السمات وما أن يكمل جمعها حتى يفاجئنا ثانية برميها في الفضاء حيث تملأ المكان بقفزاتها وكأنها زخات مطر
راقص.ثم نزول الحقيبة الذي أرى انه لم يكن منسجما مع نسيج العرض البصري المتدفق إذ أن مهيار يحمل سلفا حقيبته التي كان يمكن أن تفي بالغرض.
وينقلنا المخرج بعد هذا المشهد إلى لوحة أخرى تقوم على فكرة الصراع المستمر بين (قوة الفكر) و(فكر القوة) حيث يظهر (المحقق) الذي يبعد تلك الكرات ويهيئ المكان لاستجواب مهيار، وبينما يجرف المحقق تلك الكرات لا يتردد في اختلاس بعضها ليظهرها ثانية عند استجوابه لمهيار.
يجد مهيار نفسه وحيدا وسط عالم متوحش غريب ينبئ دوما بقدوم كارثة. في هذه اللحظة تدخل شخصية تستمد وجودها من عالم اللاهوت على كرسي المعوقين تدور يه على المسرح باحثة عن (نوح الجديد). إنها صورة افتراضية لشخصية(الرب) تعلو وجهه ملامح غامضة حيث تؤدي هذا الدور ممثلة ترتدي ثوبا ذهبيا تضع على عينيها نظارات سوداء فيما يغطي وجهها قناعا واقيا من الغازات الكيماوية، ذلك القناع الذي سرعان ما تخلعه لتهبه ل( نوح الجديد) داعية إياه لإنقاذ العالم.
ونوح هنا هو إحدى تحولات مهيار وارتحالاته الفلسفية، صورته الأخرى، يبدأ عندها رحلة لا تنتهي، ففي ذلك المشهد الذي اعتبره محور العرض يشد المخرج كل مفرداته السينوغرافية محققا كثافة دلالية عبر تركيبات بصرية وسمعية توحي بطوفان ناري، أو شلال عنيف يتصاعد مده بوجه مهيار.
استخدم مخرج العرض قماشة حمراء كبيرة تموجت مثل الهبة نيران يغطي فضاء العرض وتلتهم سفينة نوح الذي نراه مرتديا طاقية وبدلة مطفئي الحرائق.يرمي حبال الإنقاذ في كل اتجاه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والى جانبه نرى حمامته البيضاء بملابسها وحركتها التعبيرية الراقصة البالغة التأثير، وهي تشارك نوح عملية إطفاء الحرائق ،ترصد الخطر وتستشرف الأفق.
وإذ تغادر حمامة نوح خشبة المسرح لتعود وهي تحمل بين يديها بعض اللقى التي تحاول إنقاذها. في نهاية المشهد نشهد نرى نوح وحمامته في حالة تعب ويأس بالغين.فهما لم يفلحا بإنقاذ البشر ولا البشر.
تدور حمامة نوح في المكان حائرة منكسرة ثم تخلع أجنحتها وترمي بها إلى الطوفان ، أنه الإحساس بالهزيمة أمام جحيم العالم المستبد ، تؤدي الحمامة رقصتها المأساوية الأخيرة(رقصة الموت) ثم تودع أحلامها في حطام المكان وتنتحر ملقية نفسها في لهب الطوفان. يحتضن نوح جثة حمامته والركام المحيط به وقد أغرقته المأساة:
نوح: ليس إلا جثة الليل وأشلاء يدي
في تقاطيع النهار
ليس إلا حجر تحت الجفون
صورة مسرحية معبرة جدا تذكرني بصورة المأساة التي رآها العالم على شاشات التلفاز، حينما قٌتلت الطفولة الفلسطينية ممثلة بموت الطفل الشهيد (محمد الدرة).إن هذا المشهد بعلاماته المتحولة والمتبادلة زمكانيا التي بنيت على جدل الثنائيات المتفاعلة حيث (النار/ الماء، الموت/الحياة، القديم/الجديد، الضوء/الظلام، اليأس/الأمل...) تكتمل لمسات هذه اللوحة برقصة ثانية لكنها وفق إيقاع وحركة مختلفين عن الرقصة الأولى ، حيث تؤدي الفتاة الثانية رقصة تجسد خالة الألم والنواح لموت الحمامة، إنه بكاء الجسد عبر حركة تعبيرية، مستمدة من الموروث القديم حيث ملامحها مستمدة من الأساطير البابلية التي تصف رقصات الندب والنواح والتذرع للآلهة.
وسط هذا الدمار والموت ينهض مهيار ثانية رغم جراحه فهو ما يزال يحلم بالتغيير، رافضا متمردا يبحث عن أسلحة جديدة للمقاومة، فلا يجد أمامه سوى الحجر. فيتحول لديه الحجر الذي تتكرر مفردته في القصيدة الأدونيسية إلى سلاح مدمر في وجه الطغاة.
وعبر صورة تعبيرية واضحة الأبعاد تتشكل المنظومة البصرية لمشهد يبدو فيه مهيار وسط حشود من المحتجين والمتظاهرين حيث الأصوات المدوية والهتافات وصافرات الإنذار. هذه الصورة سرعان ما تنعطف بنا إلى اتجاه آخر حيث الشرطي يمشك بيدي مهيار في تكوين ثابت أقرب إلى حالة الجمود.وظلت تلك اللوحة رغم شحنتها المضمونية العميقة بحاجة إلى شحنة جمالية إذ كان تأثير الضوء هنا محدودا لم يتجاوز حدود الكشف مقارنة بمؤثرات الصوت والموسيقى التي كانت عنصرا فاعلا ومعبرا عن جو المشهد ودراميته.
وقد تمنيت من المخرج لو عمد إلى إشراك شخصيات أكثر ضمن بنية هذا المشهد المنفتح بأبعاده لحقق بعدا ملحميا بالغ التأثير، وأعتقد أن المخرج يعي ما أقصد وهو الذي سبق له أن تعامل مع حركة المجاميع في أعمال سابقة له وبالذات مسرحية (الحر الرياحي) التي سبق أن أخرجها في بغداد قبل عدة سنوات.
في لوحة أخرى نتابع كيف يقوم المحقق بفحص الحجر بحذر وتوجس شديدين مصل سلاح خطير، يزيل عنه غبار علق به إثر قدمه غي التاريخ فهو ذلك الحجر الذي حمل نقوش المعرفة القديمة أصبح اليوم سلاحا للمقاومة.
حاول المخرج في هذا المشهد تفعيل مفردات العرض وفق دلالات متنوعة مع تنوع الاختلاف بين الرؤى والأرادات، الدين والدنيا، المطلق والنسبي، الفعل المحسوس والمبادئ المجردة، الجهل والمعرفة.
أتخذ الزمن في العرض ثلاث مستويات تداخلت ضمن صيرورة واحدة، فهناك الزمن الأسطوري ممثلا بنوح والطوفان، ثم الزمن الذي يتشكل فيه الحدث الدرامي آنياً(زمن الحدث) حيث مواجهة الشاعر لعذابات الواقع. ثم زمن الحلم الممتد من داخل الذات إلى العالم ، حيث الارتحال في مدن الكون وحلم العودة إلى الوطن الأول.
هذه الأزمنة الثلاثة تداخلت وتساوقت بعلاماتها داخل بنية العرض من خلال(لغة الجسد والرقص، الإيماء،التركيبات البصرية) لتنشئ بذلك دلالات مرتبكة بالعمق الميثولوجي من جانب وبالراهن من جانب آخر.
مهيار: لو كان لي في وطن الأحلام والمرايا
مرافئ، لو كان لي سفينة
لو لن لي بقايا
مدينة، لو أن لي مدينة
في وطن الأطفال والبكاء،
لصغت هذا كله للجرح
أغنية كالرمح
تخترق الأشجار والحجار والسماء
لينة كالماء
جامحة مذهولة كالفتح.
وفي المشهد الختامي للعرض يتأرجح الشكل الفني للصورة بين عناصر المأساة التي نشعر بها من خلال منولوجات وتداعيات مهيار عبر المرأة/القصيدة التي تجسد هنا الرؤيا وحلم الرحيل، تظهر المرأة وهي تحمل فوق كتفها حقيبة السفر ومعها بساط شرقي في إشارة إلى أصول المهاجرين وانتماءاتهم الشرقية العربية وتطلعاتهم في مدن الغربة والبعاد.
يعمق المخرج هذه الدلالات عبر علاقة الشخصية مع البساط الذي حمل معاني متععدة، وتمنيت لو أن المخرج قد أستخدم فرش البساط في مواضع واتجاهات مختلفة دلالة لضياع الدروب أمام الإنسان وضياعه بل وانسحاقه أمام صعوبات السفر والحصول على سمات الدخول بل انغلاق الحدود بوجهه ، وإذا ما وصل إلى ملاذ آمن فهناك تنتظره مصاعب ومشاكل الغربة والاغتراب.
مهيار: حيرتي أنا حيرة من يضئ
حيرة من يعرف كل شئ
الأداء التمثيلي
شارك في هذا العرض الذي أنتجته فرقة مسرحGranslosa Teater خمس ممثلات تقاسمن لعب الشخصيات المختلفة( مهيار، القصيدة، نوح، الرب،الحمامة، المحقق، والراقصتان) وقد اعتدنا رؤية هذه الشخصيات بأداء الرجال، لكن مخرج العرض كريم رشجيد قلب المعادلة وجعل من نص الأداء التمثيلي نسوياً خالصا ربما بقصد إزالة خصوصية التجنيس النوع للشخصيات وتعويمها في فضاء إنساني ارحب.
وغم اللمسات الشرقية الواضحة في سينوغرافيا العرض وارتباطها بالأفكار المنبعثة من بنية النص الشعري والتي حرص المخرج على تأكيدها نجد أن الممثلات اجتهدن في فهم تفاصيل المفردة اللغوية والبصرية وتقريب أبعادها وتجسيدها عيانياً، حسيا وجمالياً.
ساعد في ذلك أسلوب العرض غير التقليدي الذي أتخذ من مسرح الصورة منهجا له، بل أن المعد والمخرج كان يكتب نص ما قبل العرض بلغة الإخراج وهذا ما من شأنه أن يُغني ويعمق الكثير من التفاصيل والأفكار.
تنوع أداء الممثلات الخمس وفقا لتحولات النص الدرامية، فشخصيتا مهيار ونوح مثلتهما الفنانة
Nina Hope ، وشكلتا مركز التشفير العلامي بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ نجد باقي الشخصيات تدور حول ذلك المركز، كما هو الحال مع شخصية المرأة / القصيدة التي مثلتها الفنانة Maria Vel
تميز أداء Nina Hope بالاعتماد على عنصر الأداء الصوتي وتلون طبقاته وكأنها تسعى لفك رموز المفردة الشعرية عبر تنويع الأداء الصوتي والإلقاء. في حين كانت لغة التعبير الجسدي هي اللغة الغالبة في أداء Maria Vel التي برعت تماما في رسم أدق تفاصيل الدور وتميز أداءها بلوحة (القصيدة/الأفعى).
أما الفنانة Petra Oesch التي مثلت شخصية المحقق فقد كان لها حضورها المميز الذي أظهرت فيه قدرتها الواضحة علة الارتجال الحركي والتمثيل الصامت فاستطاعت أن تمنح الشخصية ظلالا مختلفة أبعدتها عن النمطية المألوفة.
أما الفتاة العربية الوحيدة التي ساهمت في العرض(ميديا) فقد كانت مجتهدة بأدائها رغم حداثة عهدها في العمل المسرحي.فنفذت متطلبات شخصيتها ببراعة وأجادت في أداء الرقص التعبيري مستثمرة طقوس الندب الشرقية خصوصا في لوحة تأبينها حمامة نوح بعد موتها.
أما Elinor Morge الفتاة الثانية التي ناغمت زميلتها فقدمت رقصات تعبيرية من فن الرقص الغربي الحديث فقد برعت هي الأخرى في أدائها لدور حمامة نوح وتألقت في رقصتها المأساوية في مشهد الطوفان الناري.
وبالتالي يمكننا القول أن نص الأداء النسوي رسم بأناة تفاصيل كثيرة في بنية خطاب مسرحي مفتوح تضمن الكثير ويستوعب الأكثر.
إن عرض( أغاني مهيار الدمشقي) عرض تظافرت فيه الروح الجماعية والمحاولة المختبرية
بلغة مسرحية اعتمدت العناصر التخيلية والإدراكية لإنتاج نص ذي دلالات يتفاعل معها المتفرج وفقا لمرجعيته وإستراتيجيات تلقي التجربة المسرحية ذاتها.
..غنــــي قلــــــيلا يـــا عصـــافير فأنــي... كلمـــا فكــــرت في أمــــــر بكـــيت ..
|