كان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك هو إسحاق شامير ذو الكفاءات العالية في عمليات الاغتيال المخططة منذ أن كان عضوا فاعلا في جماعة «الهاجاناه» التي مارست الكثير من العمليات الإرهابية في فلسطين قبل قيام الدولة العبرية. وأصدر شامير تعليمات لناحوم ادموني، مدير الموساد، باغتيال العالم الكندي .
بعد يومين من ذلك القرار وصل عميلان للموساد إلى بروكسل قادمين من تل أبيب، واستقبلهما عميل مقيم. كان يراقب تحركات «بول» منذ أسابيع. وفي 22 مارس 1990 توجّه العملاء الثلاثة إلى حيث كان يقطن هدفهم والذي أصبح ضحيتهم في حوالي الساعة الثامنة من مساء اليوم نفسه. كان عمره آنذاك 61 سنة.
أكّد «مايكل» ابن العالم الكندي مرارا بعد ذلك أن والده كان على اقتناع تام أن عملاء الموساد يلاحقونه، لكن ما إن عاد القتلة الثلاثة إلى تل أبيب حتى بدأت إدارة الحرب النفسية في جهاز الموساد بنشر إشاعات، استخدمت فيها وسائل الإعلام، مفادها أن جيرالد بول قد اغتيل لأنه أراد أن يضع حدا لتعاونه مع نظام صدام حسين.
استهداف مشعل
لكن إذا كان شامير قد وسّع من دائرة الاغتيالات فإن بنيامين نتانياهو حدد أعداءه الرئيسيين الذين ينبغي قتلهم في قادة حركة حماس وينقل عنه المؤلف، كما قال عضو مهم في الأجهزة السرية الإسرائيلية، تصريحه: «أريد رأس هؤلاء الحاقدين في حماس، ولو كلّفني ذلك منصبي». ويضيف المسؤول في جهاز الموساد: «كان نتانياهو يريد نتائج فورية مثلما هو الأمر في ألعاب الفيديو أو في أفلام المغامرات القديمة التي يعشقها».
وكان الهدف الأول الذي حدده الموساد هو خالد مشعل، عضو المكتب السياسي لحركة حماس والذي كان عملاء الموساد في العاصمة الأردنية عمّان قد حددوا وجوده منذ فترة. قال نتانياهو على الفور: هيا ابعثوا إلى عمّان «من يصفّي حسابه«. ذلك دون أن يأبه أبدا لما يمكن لمثل تلك العملية أن تجلبه من تدهور في العلاقات مع الأردن بعد أن كان سابقه «رابين» قد نجح في إقامتها مع الملك حسين. هذا بالإضافة إلى ما قد يحرم إسرائيل من معلومات مهمة حول سوريا والعراق.
جرى سرّا تحضير فريق كوماندوز من ثمانية عملاء للموساد. كانت المهمة محددة لكل منهم بحيث يعود الجميع بعد تنفيذ الاغتيال عبر جسر «اللنبي» بالقرب من القدس. وكان السلاح المستخدم غير اعتيادي، أي ليس مسدسا كاتما للصوت، وإنما كان غازا ساما. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام مثل ذلك السلاح من قبل الموساد، حيث كان علماء روس هاجروا إلى إسرائيل وراء تصنيعه.
وفي 24 سبتمبر 1997 وصل أعضاء فريق الدعم إلى عمان من أثينا وروما وباريس حيث كانوا قد أمضوا عدة أيام واستلموا جوازات سفر كمواطنين في تلك البلدان، بينما كان القاتلان المكلّفان بتنفيذ خطة الاغتيال يحملان جوازات سفر كندية ، وكانا قد شرحا للعاملين في فندق «انتركونتيننتال» أنهما قد جاءا بقصد السياحة، أما أعضاء فريق الدعم فقد نزلوا في السفارة الإسرائيلية غير البعيدة.
في اليوم التالي قام القاتلان باستئجار سيارتين بواسطة موظفي الاستقبال في الفندق بزعم أنما سيقومان برحلة إلى جنوب البلاد. كان ذلك عند الساعة التاسعة، وعند الساعة العاشرة كان خالد مشعل في طريقه إلى مكتبه. كان يركب قرب سائقه بينما كان ثلاثة من أطفاله يجلسون في المقعد الخلفي. وعندما وصلت السيارة إلى منطقة الحدائق أنذر السائق خالد مشعل بأنهم ملاحقون. قام مشعل فورا بالاتصال مع الشرطة وأعطاهم رقم سيارة عميلي الموساد. لكن رجال الشرطة أخبروه بعد دقائق أن السيارة المعنية مستأجرة من قبل «سائح كندي».
قام خالد مشعل بتقبيل أطفاله الثلاثة قبل النزول من السيارة أمام مكتبه كي يتابعوا هم طريقهم إلى المدرسة برفقة السائق. كان القاتلان ينتظران مع حشد أمام مكتب حماس في شارع وصفي التل. تقدم أحدهما نحو مشعل ورشّ الغاز القاتل في وجهه. ثم هرب مباشرة باتجاه السيارة التي كانت تنتظر. لكنهما لم يستطيعا الفرار إذ انطلقت عدة سيارات وراء سيارة القاتلين، وأخبر أحدهم الشرطة كي تغلق طرق الحي.
حاولت سيارة ثانية تابعة لفريق الدعم الإسرائيلي التدخل وتهريب القاتلين، لكن إحدى السيارات اعترضت طريقها وأحاط رجال مسلحون فجأة بعملاء الموساد وأرغموا القاتلين على الانبطاح أرضا. وصلت الشرطة في الحال أيضا بينما نقلت سيارة إسعاف خالد مشعل إلى أحد المستشفيات. اقتيد القاتلان إلى مركز الشرطة حيث أبرزا جوازي سفريهما الكنديين وأكّدا أنهما ضحية «مؤامرة كبيرة». لكن رئيس جهاز مكافحة الجاسوسية الأردني وضع حدا ل«مهزلتهما» وأخبرهما أنه يعرف من هما.
وقد صرّح فيما بعد قائلا إن المسؤول المحلّي للموساد «أفرغ ما في جعبته واعترف أن الرجلين تابعين له وأن إسرائيل سوف تفاوض مباشرة مع الملك حسين». وينقل المؤلف عن أحد عملاء الموساد قوله عن اتصال هاتفي جرى بين الملك الأردني ونتانياهو: «لم يطرح الملك حسين على نتانياهو سوى سؤالين. بماذا يلعب؟ وهل يمتلك دواء ناجعا ضد الغاز السام المستخدم»؟. أراد نتانياهو أن ينكر في البداية كل شيء، لكنه لم يكن يعرف أن عميليه قد اعترفا بكل شيء أمام عدسة الكاميرا وأن شريطا مسجلا كان بطريقه إلى واشنطن».
سقوط الرواية الرسمية
إثر الفشل الذريع الذي عرفته تلك العملية استقال «داني ياتوم» مدير جهاز الموساد من منصبه في شهر فبراير من عام 1998، ولم يبعث له بنيامين نتانياهو الرسالة التقليدية التي تعوّد رؤساء الوزراء الإسرائيليون إرسالها إلى مدريري الموساد عند مغادرتهم الوظيفة من أجل «شكرهم على الخدمات التي قدّموها».
وكانت مواقع «ياتوم» قد اهتزت منذ اغتيال إسحق رابين، خاصة بعد أن قام الصحافي «باري شاميش» بتحقيق شخصي اعتمد فيه على تقارير طبية وعلى شهادات العديد من الحرّاس الشخصيين لرابين؛ ثم نشر في عام 1999 نتائج تحقيقه على شبكة الانترنت. وكانت تلك النتائج تشابه إلى حد كبير ما كان قد تمّ التوصل إليه من نتائج بعد مقتل الرئيس الأميركي جون كنيدي عام 1963.
وجاء في نتائج تحقيق شاميش قوله: «إن نظرية القاتل المعزول التي قبلت بها اللجنة الحكومية حول اغتيال رابين تخفي ما ربما كان محاولة اغتيال فاشلة ترمي إلى إنعاش الشعبية المترنحة لإسحاق رابين لدى الناخبين. لقد قبل إيغال أمير أن يلعب دور القاتل تنفيذا لتعليمات مسؤوله في الأجهزة السرية الإسرائيلية».
وأضاف: «لقد أطلق أمير رصاصة خلّبية لا تقتل. وقد أطلق رصاصة واحدة وليس ثلاث رصاصات كما أُعلن. وأظهر فحص مختبرات الشرطة على غلاف الرصاصة الذي وجدوه في مكان وقوع الجريمة أنه لا يتناسب مع صفات السلاح الذي استخدمه أمير. ولم يكن هناك من شاهد رابين وهو ينزف دما .
وسرّ آخر هو: كيف أضاعت السيارة التي أقلّت رابين إلى المستشفى ما بين ثمانية إلى اثنتي عشر دقيقة بينما كان يُفترض ألا يستغرق نقله سوى 45 ثانية عبر الشوارع المقفرة حيث كانت الشرطة قد منعت السير من أجل الاجتماع الشعبي لنصرة السلام الذي كان رابين يشارك به؟».
لكن يبقى السر الأكثر خطورة فيما قال به شاميش هو التالي: «خلال ذلك المسار الغريب الذي سلكه سائق مدرّب إلى المستشفى أُصيب رابين برصاصتين حقيقيتين انطلقتا من مسدس حارسه الشخصي يورام روبين. هذا السلاح اختفى في المستشفى ولم يعثر له على أثر بعد ذلك. وظلّت الرصاصتان اللتان تمّ استخراجهما من جسد إسحاق رابين مفقودتين مدة إحدى عشرة ساعة. ثم انتحر حارسه روبين بعد ذلك«.
لم تكن النتائج التي توصل لها شاميش هي وحدها التي ألقت الشكوك حول الرواية الرسمية لمقتل رابين؛ بل إن شهادات «تحت القسم» أكّدت «أن شيئا ما خطيرا قد حدث وله مواصفات المؤامرة». أما أمير نفسه فقد قال للمحكمة أثناء قراءة قرار الاتهام: «إذا قلت الحقيقة، فإن النظام كله سينهار، ولدي ما يكفي كي أبيد هذه البلاد».
ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أن شاميش ليس «مأخوذا بفكرة المؤامرات« بل إنه متعقل عامة فيما يكتب.