الإسرائيليون يخدعون المفتشين الأميركيين في صحراء النقب
ينتقل المؤلف هنا إلى موضوعين على جانب كبير من الأهمية، أولهما مساهمة الموساد في تحويل مفاعل ديمونة من مشروع يحظى بحماس ديفيد بن غوريون إلى أمر واقع، والثاني توظيف عملاء الموساد للاغتيال كأداة للحركة السياسية، بما في ذلك اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير والمناضل فتحي الشقاقي والعالم الكندي جيرالد بول ومحاولة أغتيال خالد مشعل، ثم يفتح المؤلف الباب أمام حشد من علامات الاستفهام حول اغتيال اسحق رابين، تثير الشكوك في الرواية الرسمية لمقتل رابين.
شاعت لسنوات طويلة مقولة أن إسرائيل لديها ما وصف بأنه «أفضل جيش نظامي» في منطقة الشرق الأوسط. ولكن لم يكن ديفيد بن غوريون مكتفيا بذلك، وإنما أصدر الأوامر ببناء مفاعل ذري في صحراء النقب بالقرب من ديمونة.عمل في ذلك المفاعل 2500 عالم وتقني. وصمم المهندسون منشأة على عمق 25 متراً تحت الأرض لوضع المفاعل في قلب مختبر هائل «ماخون-2». ويقوم عمل هذا المختبر على نظام فصل وإعادة معالجة المواد المشعّة، وكان قد جرى استيراده من فرنسا تحت تسمية رسمية هي «آلات لصناعة النسيج». لم يكن مفاعل ديمونة وحده كافياً لتزويد إسرائيل بالقنبلة النووية، بل كان لابد من توفير المادة الانشطارية، أي اليورانيوم المخصّب أو البلوتونيوم. لكن القوى النووية القليلة آنذاك وقّعت معاهدة التزمت من خلالها بعدم تزويد أي بلد بغرام واحد من المواد القابلة للانشطار التي كان مفاعل ديمونة بدونها منشأة غير عملية.بعد ثلاثة أشهر من نصب المفاعل ف1تحت مؤسسة صغيرة لإعادة معالجة المواد المشعّة أبوابها في معمل قديم للحديد في ابوللو ببنسلفانيا.
حملت هذه المؤسسة اسم شركة نوميك للمواد النووية وتجهيزاتها. كان مديرها العام هو سلمان شابيرو الذي كان اسمه على القوائم التي أعدّها رافائيل إيتان لليهود الأميركيين الأكثر نفوذا في المجال العلمي، كما كان اسمه موجودا على قائمة دافعي الأموال «الأكثر كرماً» لإسرائيل. كان ذلك إذن هو المدخل إلى الصناعة النووية الأميركية عن طريق شابيرو هذا، ابن الحاخام، الحاصل على شهادة الدكتوراه في الكيمياء من جامعة جون هوبكنز.
لم يبد أن الإدارة الأميركية كانت متحمسة آنذاك لحصول إسرائيل على السلاح النووي. وينقل المؤلف أن رسالة وجهها الرئيس الأميركي جون كنيدي في فبراير 1961 إلى دافيد بن غوريون يطلب فيها وضع مفاعل ديمونة في خطط التفتيش المنتظمة التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذا ما اعتبره بن غوريون بمثابة «ضغط أميركي» بل وقال: «إن وجود كاثوليكي في البيت الأبيض ليس أمرا جيدا بالنسبة لإسرائيل». وطلب بن غوريون بعدها مساعدة رجل يثق به في واشنطن هو أبراهام فينبيرغ، الصهيوني المتزمت والمؤيد للتطلعات النووية لإسرائيل.
كان فينبيرغ من أغنى اليهود في الحزب الديمقراطي. ولم يكن يخفى القول أنه إذا كان قد تبرع بمليون دولار لحزب كنيدي، فإنما كان ذلك من أجل الدفاع عن قضايا إسرائيل في الكونغرس. وكانت طريقته المفضلة في العمل هي ممارسة الضغط السياسي المباشر، وقد قال صراحة لكنيدي عندما كان مرشحا: «نحن مستعدون لدفع قيمة فواتيرك إذا تركتنا نشرف على سياستك في منطقة الشرق الأوسط»، يومها اكتفى كنيدي بوعد «منح إسرائيل جميع التنازلات الممكنة».
فدفع فينبيرغ 000 500 دولار ك«بداية». كان العرض واضحا وهو أنه إذا كان الرئيس الأميركي يصر على متابعة المطالبة بتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمفاعل «ديمونة» فإنه «عليه أن لا يعتمد على الدعم المالي لليهود خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة». ووجد فينبيرغ دعما مهما لدى وزير الخارجية الأميركي آنذاك روبت مكنمارا الذي قال للرئيس أنه يتفهم «رغبة إسرائيل في امتلاك القنبلة الذرية».
أصرّ كنيدي على موقفه وتوجب على بن غوريون قبول مبدا القيام بجولة تفتيشية. لكن كنيدي قدّم في الدقيقة الأخيرة تنازلين مهمين. فمقابل السماح بالدخول إلى مفاعل ديمونة تقوم الولايات المتحدة ببيع الدولة العبرية صواريخ أرض ـ جو من طراز هاواك. أي سلاح الدفاع الأميركي الأكثر كفاءة في عصره. ثم إن عملية التفتيش لن تجري من قبل تقنيي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإنما من قبل فريق أميركي حصرا وبعد برمجة الزيارة بعدة أسابيع مقدّما.
لقد خدع الإسرائيليون المفتشين الأميركيين وبنوا فوق مفاعل ديمونة الحقيقي مركزا للمراقبة كي يدفعوا أولئك المفتشين للاعتقاد أن الأمر يتعلق فعلا بمفاعل يرمي إلى تحويل صحراء النقب إلى فردوس أخضر. أمّا القسم الذي كان يتم تزويده ب«الماء الثقيل» الآتي من فرنسا والنرويج فلم يسمحوا بتفتيشه ل«أسباب أمنية». وكان يكفي للتقنيين أن يلقوا نظرة على محتوى الأوعية كي يفهموا ما فيها. وعندما وصل الأميركيون اكتشف الإسرائيليون أنه ليس فيهم من يتحدث اللغة العبرية، مما كان يقلل من حظوظ إمكانية اكتشافهم للأهداف الحقيقية لمفاعل «ديمونة».
في تلك الأثناء وافقت السلطات الأميركية على طلب تقدّمت به السفارة الإسرائيلية في واشنطن للجنة الطاقة الذرية من أجل السماح ل«مجموعة من العلماء بزيارة شركة نوميك من أجل أن يفهموا بشكل أفضل أسباب قلق المفتشين الأميركيين في ميدان معالجة النفايات النووية». ومع الموافقة على ذلك الطلب أخذ مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي ما ينبغي للمراقبة ولمعرفة إذا كان سلمان شابيرو، رئيس الشركة، يتعاون أولا مع الأجهزة السرية الإسرائيلية.
قرر رافائيل إيتان أن يقوم هو شخصيا بزيارة شركة نوميك برفقة فريق يضم عالمين كانا يعملان في مفاعل ديمونة كاختصاصيين في معالجة النفايات المشعة. كانت مهمة هذين العالمين هي إيجاد السبل لسرقة المادة القابلة للانشطار من شركة نوميك. كان رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي يراقبون عن قرب الزيارة. وبدا أن تقارير المكتب تحمل الكثير من الشكوك فيما يتعلق بما كان يعرفه شابيرو عن الأسباب الحقيقية لزيارة رافائيل إيتان وأصحابه.
وأشار أحد تلك التقارير بعد شهر من تلك الزيارة إلى أن شركة نوميك قد وقعت عقد شراكة مع الحكومة الإسرائيلية من أجل تطوير «عمليات تعقيم الأطعمة والعينات الطبية بواسطة الإشعاع». بل وأشار تقرير آخر إلى «التحذير الملصق على الحاويات المعدنيّة والذي يدل على وجود مواد مشعّة خطيرة». ثم أضاف: «بسبب هذا التحذير لم يرد أحد فتح تلك الحاويات لتفحص ما بداخلها، ومنعونا نحن من عمل ذلك».
كانت السفارة الإسرائيلية في واشنطن قد أفهمت وزارة الخارجية الأميركية أن أية محاولة لفتح حاوية من الحاويات سيترتب عليه وضعها في مصاف الحقيبة الدبلوماسية التي لا يحق للسلطات في بلدان التمثيل الدبلوماسي فتحها. هكذا وباسم الحصانة رأى عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي الحاويات التي يجري تحميلها في طائرة شحن تابعة لشركة العال الإسرائيلية أمام أعينهم دون أن يستطيعوا فعل أي شيء.
أحصى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي تسع إرساليات تمّت بتلك الطريقة خلال الأشهر الستة التي تلت زيارة رافائيل إيتان لشركة سلمان شابيرو. ورأى المسؤولون عن المكتب أن كمية كافية من المواد الانشطارية لصناعة قنبلة ذرية قد وصلت إلى مفاعل ديمونة . نفى شابيرو أن يكون قد زوّد إسرائيل بأية مواد منها، لكن مكتب التحقيقات وجد «عجز» في كمية المواد الانشطارية التي تعاد معاملتها في شركته. قال شابيرو ان ضياع اليورانيوم يعود إلى «تسربه داخل الأرض« أو «تبخره في الهواء». مثّلت الكمية المفقودة 50 كيلوغراماً ولم يتم توجيه أية تهمة لشابيرو. لكن ما يتفق عليه الجميع هو أن إسرائيل كانت بطريقها إلى تصنيع السلاح النووي.
الهدف أبو جهاد
ينقل مؤلف هذا الكتاب عن عميل أمضى ربع قرن من حياته في خدمة الموساد قوله: «كان لي الحق في أن أكذب لأن الحقيقة لم تكن تشكل جزءا من علاقتي مع الناس. كان هناك شيء واحد يهمني هو أن أستخدمهم لصالح إسرائيل». على هذا الأساس تربّى عملاء الموساد الذين كانوا يستهلون نشاطاتهم التجسسية في مهمات بالخارج. أما عدد عملاء الموساد فهو غير معروف، لكن عميل سابق للموساد هو فكتور اوستروفسكي كتب عام 1991 أن عددهم هو «حوالي 000 35 شخص في مختلف أنحاء العالم بينهم 000 20 يقومون بعمليات و000 15 نائمون، لا يقومون بأي نشاط» بينما يقوم العاملون بكل أنواع العمليات وفي مقدمتها التجسس والاغتيال.
وفي عام 1988 تولى إسحق رابين، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، شخصيا عملية تخطيط وتنفيذ اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير، أبو جهاد. لقد قام عملاء الموساد طيلة شهرين بالرقابة المستمرة للفيلا التي كان يسكنها في ضاحية سيدي بوسعيد بالقرب من مدينة تونس. لقد راقبوا وعاينوا كل شيء من المداخل وعلو السور المحيط بها والمواد المتكون منها والنوافذ والأبواب والأقفال ووسائل الدفاع ومكان وجود الحرّاس الشخصيين ومسار حركتهم.
لقد راقبوا كل شيء وبأدق التفاصيل.