لكن الرئيس المصري جمال عبد الناصر رفض الاقتراح. فلجأ مائير أميت إلى ممارسة الضغوط النفسية. قال: «أفهمت السجناء المصريين أن بقاءهم في السجون الإسرائيلية يعود إلى رفض عبد الناصر إعادة شخصين إسرائيليين. وسُمح لهم بالكتابة إلى ذويهم، لكن هذا كله بقي دون أي صدى».
ثم تقدم أميت باقتراح آخر هو إظهار الأمر وكأنه انتصار علني للرئيس المصري من دون ذكر أية كلمة عن إطلاق سراح لوتز وزوجته.
رفض عبد الناصر هذا العرض الجديد. فلجأ الإسرائيليون إلى المسؤول عن عناصر الارتباط لدى الأمم المتحدة الذي سافر إلى القاهرة وحصل على وعد بـ «إطلاق سراح لوتز وزوجته» لاحقا. ثم بعد شهر «غادر لوتز وزوجته القاهرة إلى جنيف بأكبر قدر ممكن من السرية، وكانوا بعد ساعات في مكتبي»، كما صرّح أميت.
فهم مائير أميت سريعا أن عملاءه بحاجة إلى دعم لتنفيذ مهماتهم. هكذا شكل شبكة «سيانيم» أي المتطوعين اليهود للتعاون كل في مجاله. فمن يعمل منهم مثلا في وكالات للسفر يسهل تقديم سيارة لجواسيس الموساد من دون عراقيل؛ والمصرفي يقدم التسهيلات المالية المطلوبة؛ والطبيب قد يساهم بإخراج رصاصة من دون إعلام السلطات.
لم يكن مائير أميت يعترض، بالطبع، على محاولات التجسس لكنه كان يؤكد على ضرورة التخطيط الجيد لها. وكان قد أصرّ كذلك على إيجاد شبكة عالمية للصلات مع وسائل الإعلام التي كان يستخدمها ببراعة كبيرة.
فمثلا كان يتبع قيام أي اعتداء أو تفجير في أوروبا حدوث «تسريبات» إلى الصحافة بقصد إثارة مقالات في الاتجاه الذي يريده جهاز الموساد، بل والقيام بحملات التضليل الإعلامي إذا اقتضى الأمر ذلك.
وفي كل مرّة كان ينبغي «اختيار» أن تكون إسرائيل الهدف أو الضحية. وكان القرار يعود لاعتبارات سياسية محضة ترمي إلى تحويل الأنظار عن مناورة دبلوماسية تنوي إسرائيل القيام بها في الشرق الأوسط أو الحصول على التعاطف معها خاصة في الولايات المتحدة الأميركية.
بداية الانحطاط
ينقل مؤلف الكتاب عن مائير أميت قوله أن جهاز الموساد قد بدأ بالانحطاط منذ اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين في شهر نوفمبر من عام 1995، أثناء اجتماع جماهيري مؤيد للسلام.
ويؤكد أميت، أثناء لقائه مؤخرا مع المؤلف، أن المدير العام للموساد «شاباتي شافيت» كان قد أخطر المقربين من رابين بإمكانية اقتراف عملية اغتيال. وقد قال أحد هؤلاء المقرّبين أن الإنذار كان غامضا إلى درجة «لا يمكن أن ينبئ معها أنه كان هناك تهديد حقيقي».
ميدان عمل الموساد هو الخارج، وكل عميل فيه ينبغي عليه المرور في المدرسة الخاصة للجهاز الموجودة بالقرب من تل أبيب. ومن الممنوع على وسائل الإعلام الإسرائيلية الكشف عن وجودها، تحت طائلة العقاب.
وقد ثارت ضجة كبيرة في تل أبيب عام 1996 عندما أفصحت صحيفة إسرائيلية عن اسم المدير العام للموساد «داني ياتوم». طالب البعض بضرورة ايداع الصحافي السجن، وليس وحده وإنما رئيس تحرير الصحيفة معه. لكن لم يتم ذلك بعد أن لاحظ مسؤولو جهاز الموساد أنفسهم أن العديد من الصحف العالمية كانت قد نشرت اسم ياتوم. وكان رأي أميت هو:
«إن الإفصاح عن اسم مدير الموساد وهو على رأس عمله أمر خطير جدا. والجاسوسية نشاط سري غالبا وغير مريح. وليس مهماً ما يفعله جاسوس وإنما تنبغي حمايته. وتمكن معاملته بقسوة داخل الجهاز ولكن على مستوى الخارج يجب عدم المساس به بل ينبغي أن يبقى مجهولا».
كان اسم «مائير أميت» المتعارف عليه عندما كان رئيسا للموساد هو «رام». وكان على اقتناع بأنه ينبغي تحقيق مقولة «إسرائيل الكبرى». كان قد انخرط في صفوف الجيش وعمل قائدا لكتيبة مدة عامين في ظل قيادة موشي ديان.
ووصل بعد ذلك إلى مرتبة قائد عمليات الجيش، أي الشخصية الثانية في القوات المسلحة الإسرائيلية. ترك صفوف الجيش إثر خلل في عمل مظلته أثناء إحدى القفزات. فسافر إلى أميركا للدراسة في جامعة كولومبيا. وبعد عودته عرض عليه موشي ديان رئاسة الاستخبارات العسكرية، ثم خلف إيسر هاريل في رئاسة الموساد بتاريخ 25 مارس 1963.
ومائير أميت هو الذي شرع بانتهاج سياسة اغتيال أعداء الموساد. وهو الذي أقام علاقات سرية مع جهاز الكي.جي.بي السوفييتي وهو الذي زاد من إيقاع استخدام النساء في الجاسوسية وقيامهن بدور «الطعم» أحيانا، الأمر الذي لم يكن بعيدا عن ولوج العديد من الدوائر. وكان يصف دائما طريقة عمله بالقول: «هذا سر، إنه سرّي».
ترك مائير اميت إدارة جهاز الموساد عام 1968، ليعيش بعدها في أحد أحياء تل أبيب، ولا يعرف ماضيه سوى أفراد أسرته المقربين، وهو لا يزال يحرص على أن يبقى بعيدا عن الأنظار. وقد طبّق حتى بعد تركه لإدارة الموساد بسنوات طويلة نفس المبدأ الذي كان يردده وهو أن «الجاسوسية مسألة ذكاء وليست مسألة عضلات».
ويبقى خصمه الأول والأخير هم العرب. وكان مائير أميت قد غادر إدارة جهاز الموساد بكل هدوء. وفي اليوم الأخير استدعى المتعاونين معه في إدارة الجهاز وقال لهم مرّة أخيرة إذا كان العمل في الموساد يطرح عليهم إشكالية أخلاقية فما عليهم سوى أن يتركوه على الفور. كانت تلك هي آخر كلماته لهم قبل أن يصافحهم مغادراً المقر من دون عودة إليه.
كانت هناك، في الواقع، أزمة تلوح في أفق العلاقات بين الموساد وأجهزة الاستخبارات الأميركية وتهدد ذلك التحالف القائم بينهما آنذاك، وبدا أنه قد تكون لها نتائج وخيمة بالنسبة لإسرائيل.
كان في قلب تلك الأزمة أحد العملاء الذين عملوا تحت أمرة مائير أميت، وهو عميل، ليس كالآخرين، إذ نال شهرة بعد تخطيطه وتنفيذه لعملية اختطاف المسؤول النازي السابق أدولف إيخمان من الأرجنتين وإعادته إلى إسرائيل حيث حوكم وأعدم، الشخص المقصود هنا اسمه رافائيل إيتان، الشهير بـ «رافي».
|