قال نصر الله: انتظروا قليلا، فهذه تداعيات إنسانية وسياسية. وحاول أن يشرح لنا تعقيدات الموقف الشيعى فى العراق، وبطبيعة الحال ممتدا إلى لبنان، راويا قصة استمع إليها من أحد المراجع الشيعية العليا فى العراق، مؤداها أن هذا المرجع الشيعى الكبير اتصل بصديق له فور احتلال العراق واختفاء الرئيس السابق صدام حسين مباركا ومهنئا، فرفض الصديق تلك المباركة والتهنئة قائلا: لا أصدق أننا تخلصنا منه حتى أرى جثته، ثم أجلس على قبره ثلاثة أيام كاملة حتى أطمئن أنه لن يعود.
لم يكن نصر الله موافقا على تلك القراءات المبالغة فى عداوتها، بل أبدى خشية من أن تؤدى هذه المبالغات فى الثأر السياسى إلى غياب رؤية حقيقية لما سوف يجرى فى المنطقة.
4
وكانت ملاحظته الثانية، وثبت أنه مصيب فيها، أن احتلال بغداد ووجود القوات العسكرية الأمريكية بصورة مباشرة فى المشرق العربي، سوف يؤدى إلى تبنى خطط عسكرية جديدة ضد لبنان والمقاومة فيه، وكانت حسابات حسن نصر الله -فى ذلك الوقت- أن الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بنفسها بتلك العمليات العسكرية ضد حزب الله مستفيدة من وجودها العسكرى الكبير فى المنطقة، أو يحتمل أن تسند تلك المهمة إلى إسرائيل.
وقال: لا أعد بالنصر، ولكننا سوف نقاوم بشراسة، قد نُهزم، ولكننا سوف نلحق بهم خسائر باهظة.
وكانت تلك تقديرات واقعية لحدود قوة حزب الله فى ذلك الوقت.
ولعلى أميل إلى الاعتقاد- استنادا إلى هذا الحوار مع الشيخ نصر الله- ان الاستعداد الكبير للحرب ضد الولايات المتحدة بذاتها، أو مع إسرائيل بالنيابة عنها، بدأ فى الأسابيع الأولى من احتلال العراق.
وهناك- الآن- من يعتقد أن الاستعداد قد بدأ بعد تحرير الجنوب عام 2000. وقد تكون بالفعل جرت بعض الاستعدادات، لكن - باليقين- أن رفع مستويات التسليح والتدريب والتجنيد بدأ بعد غزو العراق مباشرة، فلا أحد يستعد بمثل هذا المستوى وهذه الجدية إلا تحت سقف اعتقاد سياسى واستراتيجى راسخ بأن الحرب قادمة لا محالة، وأن ثمة فى التطورات السياسية بالمنطقة ما يشير إلى هذا الاعتقاد ويؤكده.
وكانت قراءات نصر الله نافذة إلى ما سوف يحدث.
ولعل فضله الحقيقى أنه تحسب للأمر وأعد له، ولم يكتف بالتحليلات السياسية، واستخدم علاقاته الإقليمية فى إقناع حلفائه برفع مستويات التسليح.
وكانت تلك مفاجأته الكبرى فى حرب الصواريخ وفى المنازلة البرية عند بنت جبيل.
وعندما بدأت عمليات القتال وعد نصر الله مقاتليه ومواطنيه وأمته بالنصر، وهو ما لم يكن متأكدا منه قبل ثلاث سنوات.
5
و.. وكانت الملاحظة الثالثة للشيخ حسن نصر الله فى هذا الحوار الطويل تتعلق بمصر ودورها فى المنطقة. وكانت الملاحظة نافذة، وكأنها اكتشاف قومى عربى جديد للشيخ نصر الله.
أخذ يروى لنا أن سبعة من سفراء الاتحاد الأوروبى ببيروت طلبوا لقاء عاجلا معه أثناء مظاهرات الغضب المصرية الواسعة التى عمت شوارع العاصمة والمدن المصرية مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وقال إنه سأل نفسه عن سر هذا التدافع الدبلوماسى الغربى لطلب مثل هذه اللقاءات العاجلة فى هذا التوقيت، وبدا الأمر محيرا، حتى اكتشف -بحس سياسى وإعلامى وأمنى اكتسبه من خبرة قيادة حزب الله- بحسب تعبيره الحرفي، أن السؤال عن مصر ومستقبل نظامها السياسى فيما لو تصاعدت موجة الاحتجاجات الشعبية هو نقطة التقاطع فى ركام أسئلة تلقاها من السفراء الأوروبيين، وهو ما لفت نظره إلى الدور المحورى الذى تلعبه مصر فى الصراع على المنطقة، سلبا أو ايجابا، وكانت تلك الملاحظة التى أبداها أمام ضيوفه، وكلهم مصريون وقوميون عرب، تعبيرا عن تطور لافت فى التفكير السياسى لقائد ينتمى بالتكوين إلى طائفة سياسية ويتزعم حزبا ينتسب إليها.
وكانت مشكلة نصر الله -دائما- أن ينتصر للوطنى اللبنانى وللقومى العربى فيه، وهو شرط ضرورى لتوحيد الصف اللبنانى خلف المقاومة، والحصول على دعم شعبى عربى واسع، فى حرب كسر العظام مع آلة الحرب الإسرائيلية، فى مقابل تكوين سياسى طائفى داخلا فى تعقيدات المعادلات السياسية اللبنانية.
غير أنه لم يتوقع -يومها- أن يضفى نظام الحكم المصرى غطاء عربيا على العدوان الذى كان ينتظره وبدا فى الاستعداد لمواجهته.