موتسارت.. موسيقاه مقبلة على الحياة مثل إطلالة الفجر
.
في السنة الخامسة وضع الطفل على آلة البيانو مقطوعة موسيقية تامة النضج من فن الروندو، ففزع والده الموسيقي، وصار يترقب صغيره المعجزة
في السابع والعشرين من اكتوبر الفائت، مرّت على أفق الموسيقى السحري، المئوية الثانية والنصف لميلاد موتسارت. كان الثاني الذي بقي على قيد الحياة من بين الأبناء السبعة للموسيقي ليوبولد. ولولا عصا القدر، التي انتخبت روح هذا الوليد لتتجلى عالياً في أفق الموسيقى، وبصورة جد استثنائية، لبقي هذا الوليد اسماً بين الأسماء، في سجلات النفوس العامة: يوهانيس كريسوستومُس ولفغانغوس ثيوفيلوس موتسارت.
في السنة الخامسة وضع الطفل على آلة البيانو مقطوعة موسيقية تامة النضج من فن الروندو، ففزع والده الموسيقي، وصار يترقب صغيره المعجزة. أصبحت الروندو طبعاً عمل موتسارت الأول في سلسلة مصنفاته الطويلة. وراح الأب يخف بابنه الصغير الى الأوساط الحاكمة في النمسا وفي بلدان أوربية شتى، يعرض عليهم بضاعته المدهشة. في زيارة لندن، وموتسارت في الثامنة من العمر، كان الأب ليوبولد في حالة رشح حاد، ففرض على الطفل أن لا يقرب البيانو حرصا على راحة الأب المريض. ودفعاً للضجر صار موتسارت يخربش على الورق سيمفونية كاملة، أصبحت في سجل أعماله سيمفونيته الأولى. ولم تُهمل هذه الأعمال كما أُهملت خربشات الموسيقيين الآخرين في طفولتهم. فالقدر لم يمنح براءة موتسارت طبيعة خربشات الأطفال المجانية المعهودة، لأنه انتخبه بريئاً طوال حياته القصيرة. ظل موتسارت طفلاً في الخمسة والثلاثين سنة التي عاشها. ولكن معجزة هذه الطفولة أنها جَيّرت لصالحها كل فضائل النضج، التي تتمتع بها العبقريات المسنة: سعة المعرفة، الحكمة، الرؤية الفلسفية للحياة والانسان، الدراية الفائقة للتقنية والبناء..الخ. كل هذه الفضائل أخذت لون طفولته، فصارت تطلع للناس بهيئة موسيقى خالصة.
قد يكون من السهل أن تلتقط خيوط المعاناة الذاتية، أو الرؤى الفلسفية في أعمال بيتهوفن الأخيرة. ومن السهل كذلك أن تترصد مواقف فاغنر الفكرية في أوبراه، ولكن الأمر عصي مع موتسارت. لأن موسيقاه مقبلة على الحياة مثل إطلالة الفجر، كل فجر. لا تُبدي لك إلا قوة الجمال، وما يمكن أن يثيره الجمالُ من نوازع غامضة باتجاه احتضان الحياة، أو احتضان شيء ما إنساني. على أنك لن تصل الى قرار في تأويل ما حدث في أوبراه "دون جوفاني"، لأنها أعمق من أن تنتهي الى فكرة نفسية أو فلسفية أو بيولوجية. فدون جوان المغامر في غابات الحب والرغائب مع النساء كان أخطر من كيان نزوات حمقاء. كان عبر موتسارت بطل حيرات كبرى، مثل هاملت، ودون كيشوت. الفارق إنه مع موتسارت يشرق بهيئة موسيقى، لا كلمات. بهيئة ألحان، لا أفكار.
مباهج موتسارت الضاحكة قد تُخفي أسى عميقاً. فهذا الطفل لم ينعم إلا بطبعه الداخلي الكريم. فالحياة الخارجية لم تكن كريمة معه أبداً. لم تنعم عليه بسنوات عمر طويلة مثل هايدن، ولم تعوضه عن عطاياه الخالدة بعطايا زائلة من معاش ورزق كريمين. فقد دفعته منذ طفولته الى أسفار لم تهدأ في عموم أوروبا، كان مضطرا لضيق الوقت فيها الى تأليف موسيقاه وأوبراته داخل عربات السفر. ودفعته الى تحمل ثقل دم الارستقراطية ذات النفاجة، والتأليف المتواصل استجابة لطلبات لا يرغب فيها. إلا أنه كان طفل إرادة، منحته أكثر من فرصة لتأليف الموسيقى التي يريد في خلواته، والأوبرات التي لا ترتضيها الارستقراطية، وتلك التي وضعها خصيصا للناس البسطاء من طبقته. كانت موسيقاه كلها صادرة عن داخل مبرأ من الاستجابة القسرية. ما من حركة في عمل موسيقى آلات، أو آريا (أغنية) في أوبرا أو في قداس، إلا وفيها استجابة لنوازع داخلية خالصة.
والميال منا الى الكلمة والفن الكتابي له أن يختار رسائل موتسارت الضخمة، أو مختارات منها، وهي كثيرة، لتكون مدخلاً لشخصه وموسيقاه، وليلاحق بصورة أكثر مباشرة تيار هذه العبقرية الجارف، منذ أول صباه. ولأن موتسارت لم ينعم بتعليم مدرسي كطالب، وإنما بالثقافة الموسيقية على يدي أبيه، فإن لغته ظلت، خاصة في الرسائل المبكرة، غير مبالية إملائيا وإعرابيا. على أنها في جملتها غاية في قوة التعبير بفعل تلقائيتها وعفويتها، وقوة حيويتها المرحة، الحادة.
ولد في ساليتسبيرغ النمساوية عام 1756، وبقي فيها رغم الأسفار العديدة والبعيدة، حتى تركها الى العاصمة فيينا سنة 1781. هناك تزوج من كونستانتسا التي أنجبت له ستة أطفال، لم يعش منهم إلا اثنان. كان آخرهم قد ولد قبل موت موتسارت عام 1791 بأربعة أشهر فقط.
الاحتفال الغربي بموتسارت هذه الأيام لم يعد يخلو من صبغة تجارية ذات أرباح كبيرة. فلك أن تقلب الانترنت تحت اسم الاحتفال الميلادي لموتسارت، لتلتقي بنشاطات لا تُحصى في حقول السياحة والسفريات الى مواقع موتسارت النمساوية، وحقول المهرجانات الموسيقية، وإنتاج المداليات التذكارية، والدُمى، والألعاب، والملابس. ولا بد لهذه الشركات من رابط يربط بين كل هذه المنتجات وبين موسيقى موتسارت. حتى الشوكولاتة، التي كانت لها أصداء بارزة في أوبرا "كوسي فان توتة" (والعنوان يعني: كلهن يردن ذلك).
ولكن الإصدارات الموسيقية والكتب تقف بالتأكيد في الصدارة من هذا الإنتاج الاحتفائي. وهي في أكثريتها إعادة إصدار، أو محاولة إفراغ ما في مخازن دور النشر من إصدارات سابقة. أكثر دور النشر الموسيقية الكبرى مثل DG،DECCA ، PHILIPS NAXOS، EMI.. أصدرت المجموعة الكاملة لمؤلفات موتسارت، وعادة ما تحتوي على قرابة 180 اسطوانة سي دي. مدينة موتسارت ذات مدخل واسع ومُشرع الأبواب. ولكن طرقها متاهة، ولا مخارج يسيرة لها.
*فوزي كريم
================================================== =====
في المرفقات : الحركات الاربعة للسمفونية ال 40 لموزارت
Wolfgang Amadeus Mozart - Symphony No.40, KV 550
Key: g Minor
Composed: 1788, 2nd Version with Clarinets later
J.S: Death is the solution to all problems. No man = No problem.