العمل
ثم جاء اليه فلاح وقال له: هات حدثنا عن العمل.
فأجاب قائلا:
انكم تشتغلون لكي تجاورا الارض ونفس الارض في سيرها.
لأن الكسول غريب عن فصول الارض، وهائم لا يسير في موكب الحياة، السائرة بعظمة وجلال في فضاء اللانهاية الى غير المتناهي.
فإذا اشتغلت فما انت سوى مزمار تختلج في قلبك مناجاة الأيام فتتحول الى موسيقى خالدة.
ومن منكم يود ان يكون قصبة خرساء صماء، وجميع ما حولها يترنم معاً بأنغام متفقة؟
قد طالما اخبرتم ان العمل لعنة، والشغل نكبة ومصيبة.
اما انا فأقول انكم بالعمل تحققون جزءاً من حلم الارض البعيد، جزءاً خصص لكم عند ميلاد ذلك الحلم.
فإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياة.
لأن من احب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة اعماقها، وتدنيه من ابعد اسرارها.
ولكن اذا كنتم وانتم في الآلام تدعون الولادة كآبة، ودعامة الجسد لعنة مكتوبة على جباهكم، فإنني الحق اقول لكم انه ما من شيء يستطيع ان يمحو هذه الكتابة ويغسل جباهكم من آثارها سوى سعيكم وجهادكم.
وقد ورثتم عن جدودكم القول ان الحياة ظلمة، فرحتم في عهد مشقتكم ترددون ما قاله قبلكم جدودكم المزعجون.
فالحق اقول لكم ان الحياة تكون بالحقيقة ظلمة حالكة اذا لم ترافقها الحركة.
والحركة تكون عمياء لا بركة فيها ان لم ترافقها المعرفة.
والمعرفة تكون عقيمة سقيمة ان لم يرافقها العمل.
والعمل يكون باطلا وبلا ثمر ان لم يقترن بالمحبة، لأنكم اذا اشتغلتم بمحبة فإنما تربطون انفسكم وافرادكم بعضها ببعض، ويرتبط كل واحد منكم بربه.
***
وما هو العمل المقرون بالمحبة؟
هو ان تحوك الرداء بخيوط مسحوبة من نسيج قلبك مفكراً ان حبيبك سيرتدي ذلك الرداء.
هو ان تبني البيت بحجارة مقطوعة من مقلع حنانك واخلاصك مفكراً ان حبيبك سيقطن في ذلك البيت.
هو تبذر البذور بدقة وعناية، وتجمع الحصاد بفرح ولذة كأنك تجمعه لكي يقدم على مائدة حبيبك.
هو ان تضع في كل عمل من اعمالك نسمة من روحك،
وتثق بأن جميع الاموات الاطهار محيطون بك يراقبون ويتأملون.
وكثيرا ما كنت اسمعكم تناجون انفسكم، كأنكم في نوم عميق، قائلين: "ان الذي يشتغل بنحت الرخام فيوجد مثالا محسوساً لنفسه في الحجر الأصم هو اشرف من الفلاح الذي يحرث الأرض.
والذي يستعير من قوس قزح الواناً يحول بها قطعة النسيج الحقيرة الى صورة انسان، هو افضل من الاسكاف الذي يصنع الاحذية لأقدامنا".
ولكنني اقول لكم، لا في نوم الليل، بل في يقظة الظهيرة البالغة، ان الريح لا تخاطب السنديانة الجبارة بلهجة احلى من اللهجة التي تخاطب بها احقر اعشاب الارض.
والعظيم العظيم ذلك الذي يحوّل هينمة الريح الى انشودة تزيدها محبته حلاوة وعذوبة.
****
اجل، ان العمل هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة.
فإن لم تقدر ان تشتغل بمحبة وكنت متضجراً ملولاً، فالاجدر بك ان تترك عملك وتجلس على درجات الهيكل تلتمس صدقة من العملة المشتغلين بفرح وطمأنينة.
لأنك اذا خبزت خبزاً وأنت لا تجد لك لذة في عملك، فإنما انت تخبز علقماً لا يشبع سوى نصف مجاعة الانسان.
واذا تذمرت وانت تعصر عنبك، فإن تذمرك يدس لك سماً في الخمرة المستقطرة من ذلك العصير.
وان انشدت اناشيد الملائكة، ولم تحب ان تكون منشداً، فإنما ان تصم آذان الناس بأنغامك عن الاصغاء الى اناشيد الليل واناشيد النهار.
يتبع...
من السهل ان تعرف كيف تتحرر ولكن من الصعب ان تكون حراً
|