07/07/2006
|
#2
|
مشرف متقاعد
نورنا ب: |
May 2006 |
مشاركات: |
3,276 |
|
إذن العلم نفسه، كتجريب وملاحظة أصبح يواجه التفنيد والتكذيب بحكم نسبية الأحكام التي يصدرها، وعجزه عن إعطاء إجابات شافية ووافية على ظواهر عديدة، وانهار الكثير من القوانين العلمية التي اعتبرت يوماً مسلمات لا يجوز منازعتها أو نقدها، وانفتحت قضايا علمية جديدة لم تكن في ذهن العلماء أو توقعاتهم مثل انفلاق الذرة الذي ألغى نظرية الانفصال بين المادة والطاقة، فأصبح معلوماً أن المادة تصبح طاقة وأن الطاقة تصبح مادة. وظهرت نظرية “الكوانتم” التي تقول: الطاقة الكهربائية تجيء شحناتها من المجهول “الغيب” وتذهب إلى المجهول ولم يستطع العلماء تفسير ذلك حتى الآن، وأصبحت نتائج العلوم كما يقول مارتين ستانلي “تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات وليس باليقين”.
لقد انتهت صنمية “العلم” الذي اتخذه بعض الفلاسفة متكأ لتمرير أيديولوجيتهم وبضاعتهم الفكرية، مع بشاعتها، ولا يتسع المجال لشرح هذه البشاعات في تاريخ الإنسانية مع أنها سميت بالعلمية.
إن العلم يتغير كما يقول البروفيسور ج. سوليفان في كتابه “حدود العلم” قراءة د. عماد الدين خليل “فإذا بنظرياتهم تتهاوى ويقصد أحبار المادية الواحدة تلو الأخرى، هذا ما حدث بالنسبة لكثير منها في حقول الاجتماع والاقتصاد والنفس، وأن المادية التاريخية التي أقامت صرح نظريتها على معطيات العلم في القرن التاسع عشر، والتي سميت بالعلمية ما لبثت أن تعرضت في القرن التالي، وبخاصة في العقود الأخيرة، لكثير من الهزات العنيفة، لأن الأساس الذي بنيت عليه أخذ يتأرجح ويتمايل تتهاوى بعض جوانبه، وإذا كان العلماء أنفسهم أبناء المختبر والتعامل التجريبي مع المواد والظواهر والأجسام، يعترفون بأن أحكامه ليست نهائية، وإن ما تمكنوا من قطعه لم يتجاوز بدء الطريق إلى الحقيقة، فما لهؤلاء القوم من الأدباء والفلاسفة الذين لم يدخلوا مختبراً ولم يجربوا ظاهرة، يدعون بنهائية أحكامه وثباتها وديمومتها؟”.
وبهذا لا ينبغي القول إن هناك حقائق نهائية للعلم، لأن هذا القول مخالف للواقع، وللتغيرات العلمية المتسارعة، ومن هنا لا ينبغي كذلك القول أيضاً ان الدين هو “الإيمان بالغيب” وأن العلم “بالملاحظة العلمية”، فالدين والعلم كلاهما يعتمد على الإيمان بالغيب. غير أن دائرة الدين التحقيقية كما يطرح المفكر الإسلامي وحيد الدين خان هي دائرة “تعيين حقائق الأمور” نهائياً وأصلياً، أما العلم فيقصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية، فحين يدخل العلم ميدان تعيين حقائق الأمور تعييناً حقيقياً ونهائياً وهو ميدان الدين الحقيقي فإنه يتبع نفس طريق الإيمان بالغيب، الذي يتهم به الدين. ولذلك فإن الحقائق التي تعرف في العلم باسم “الحقائق الملحوظة” ليست بحقائق شوهدت فعلاً، وإنما هي تفسيرات لبعض المشاهدات، الآن المشاهد الإنسانية لا يمكن أن توصف بأنها (كاملة) ومن هنا فإن جميع التفسيرات تعد “إضافية”، ومن الممكن أن تتغير بتغير الملاحظة.
والإشكالية التي واجهت العلم الغربي، وتتم المراجعة له الآن لأنساقه الفكرية، والفلسفية، والعلمية أيضاً. انه تم وضع الأيديولوجيا مقابل العلم والحقيقة، وهذه الأيديولوجيات عملت على تشويه الحقائق وقلب المفاهيم، لأن الأيديولوجيا شكل من أشكال الوعي، وحيث يكون التركيز على النظرية والمعرفة، تظهر الأيديولوجيا بصفتها “إطاراً مفاهيمياً” وطريقة منظمة لتأول التجارب ووضع الافتراضات. وقد لا نغالي إذا قلنا وراء كل نظرية علمية خلفية أيديولوجية مسبقة، وهذا بلا شك ليس قاعدة عامة يمكن حصرها في كل المعارف العلمية. وإنما في الادعاء المتعالي لبعض الافتراضات العلمية الجامدة التي تدعي نهائية أحكامها.
يقول العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في بحثه “ مشكلة العلاقة بين العلم والدين”: إن “العلم في مضمونه الضيق الحديث الذي فرض عليه، لم يستطع أن يحتوي الواقع ويخفيه، ومن ثم فلم يستطع أن يجره وراءه في أي من الاتجاهات التي فرضت عليه”.
فقد كان لا بد أن تقود أحدث الاكتشافات العلمية أصحابها إلى اليقين، بوجود حقيقة مستقلة اسمها الوعي، إذ لما كانت المادة في أدنى مستوياتها لا تفهم إلا باستخدام العقل، فقد كان لا بد أن يكون العقل إحدى حقائق الوجود المطلقة. والحجة ذاتها قائمة على وجود الروح والعواطف والقيم الجمالية. وهي كلها ذات وجود مستقل عن دنيا المادة وأي من معطياتها.
وقد استتبع اليقين بهذه الحقائق المطلقة تراجعاً لا مندوحة عنه، عن القول بسرمدية المادة وأزليتها، واستلزم تساؤل العقل عن حقيقة الماضي السحيق وما كان في أغواره، وعن النهاية التي تتربص بالمادة وما قد يكمن وراءها.
ولكن ماذا عسى أن يقول العلم في ذلك كله، وقد قضي عليه بالسجن في ذلك البنيان الصغير الذي يسمى المادة أو الطبيعة؟ لا ريب أنه لن يقول شيئاً إذ ليس بوسعه أن يتحدث فيما لم يعد داخلاً في اختصاصه.
ومع ذلك فإن هذه الحقائق كما يقول د. البوطي عندما كانت غائبة ومحجوبة عن العقول، وراء تيار الفكر المادي، لم يكن في الأمر ما يشكل أو يحرج، إذ كان من المستساغ أن يقال باسم العلم: لا وجود لشيء من هذه الأمور المزعومة، ولكن أما وقد أعلنت هذه الحقائق اليوم عن نفسها، ودانت لها العقول واعترفت بها الألسن، فإن من المحرج جداً أن يقول العلم، والعلم ذاته: لا أدري، أو إن الخوض في هذه الحقائق ليس من اختصاصي، إذن فإلى من يلجأ الإنسان هارباً من جهله بهذه المعضلات التي تلاحقه أينما ذهب، بعد أن التجأ إلى العلم، فقال له سدنته وساسته الجدد: إنه قد تقاعد عن الخوض في كل ما هو خارج عن دائرة المادة والطبيعة، ولم يعد شيء من ذلك داخلاً في اختصاصه اليوم؟
تلك هي صورة الأزمة الفكرية المستشرية في الغرب اليوم: الحقائق الغيبية التي كانت إلى الأمس القريب محل رفض وإنكار، تشكل جل الموضوعات التي يتناولها الباحثون والمفكرون الغربيون اليوم بالإذعان والتقدير. بل إنها لتفرض نفسها اليوم على كثير من المنظمات والأندية الثقافية والمؤسسات الفكرية والعلمية والاجتماعية.ومن المعلوم أن الأداة الوحيدة التي تملك معالجة هذه الحقائق والكشف عن أغوارها، إنما هي العلم. فالعلم ممنوع من الخوض في شيء من ذلك، لأن محكمة شكلت في القرن السابع عشر حكمت على العلم بالحرمان من حق البحث والنظر في كل ما كان خارجاً عن حدود الطبيعة الخاضعة للمشاهدة والتجربة”. ومن أجل ذلك يرى د/ البوطي أن كثيراً من الأفكار العلمية تتجه اليوم “إلى إعادة النظر في هذا المصطلح الزائف لمعنى العلم، وتتوالى البحوث والمؤلفات التي تدعو إلى ضرورة الرجوع بالعلم إلى معناه الطبيعي والحقيقي، ورفع ذلك الحجر الذي لم يتضح له، خلال ثلاثة قرون، أي معنى أو مبرر منطقي، ذلك الحجر الذي انتهى إلى تقسيم الإدراك الذهني إلى ما يسمى “science” العلم وما يسمى ب “knowledge” المعرفة”.
الأول منهما لا يتدخل في أي شيء وراء المحسوس أو المنظور، والثاني منهما يسمح لها بالخوض في كل ما يتجاوز المنظور والمحسوس.
إن الفكر الغربي يسير اليوم في منعطف يتجه إلى إعادة هاتين الكلمتين لأصلهما الواحد، أو التقريب بينهما ما أمكن، وإن كثيراً من المثقفين الغربيين يلحون، من خلال تسفيه آراء فرويد وأشياعه، وداروين وتلامذته على ضرورة رفع قانون من قوانينه المنطقية المعروفة، القائل: العلم يتبع المعلوم، وليس المعلوم يتبع العلم.
إن الكثير من القوانين العلمية المزعومة التي تصنف ضمن إطار العلم ومضامينه، ليست من العلم في شيء، لكنها أدخلت زيفاً هذا الميدان بسبب التقسيم الذي أدخله الفكر المادي إلى العلوم الإنسانية، وإن صياغات القوانين والفرضيات العامة عبرت أغلبها عن خلفيات فلسفية مختلفة ومواقف أيديولوجية مسبقة لا صلة لها بالعلم الخالص.حتى القوانين الرياضية لم تسلم من الزيف الأيديولوجي في العلم الغربي. ومن الحق أن نذكر أن العلم في الغرب ومن خلال علمائه المتجردين من الأحكام المسبقة، يراجع مفاهيمه كلها الآن في ضوء التطورات العلمية نفسها بعد سقوط الكثير من النظريات والفرضيات الزائفة ذات اليافطات العلمية الكاذبة.
وما يقال الآن في الغرب عن نهاية الأمم نهاية الفلسفة نهاية الأيديولوجية نهاية السياسة نهاية التاريخ ما بعد الحداثة الخ: ليس إلا تعبيراً عن أزمة حقيقية عصفت بالعلم الغربي ومسلماته، ويعاد الآن تقييمها وإزاحة الحتميات والتعميمات والافتراضات، والأصنام التي صنعوها بأنفسهم.
____________________
عن جريدة الخليج الإماراتية .__________________
|
|
|