لك طلبك وسوف انشر هنا "النبي" على حلقات
وظل المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجراً لذاته، يترقب عودة سفينته في مدينة اورفليس اثنتي عشر سنة ليركبها عائداً الى الجزيرة التي ولد فيها.
وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد، صعد الى قمة احدى التلال القائمة وراء جدران المدينة وألقى نظرة عميقة الى البحر، فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضباب.
فاختلج قلبه في اعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحاً، فاغمض عينيه، ثم صلّى في سكون نفسه.
****
غير أنه هبط عن التلة حتى فاجأته كآبة صماء، فقال في قلبه:
كيف انصرف من هذه المدينة بسلام، وأسير في البحر من غير كآبة؟ كلا! انني لن ابرح هذه الارض حتى تسيل الدماء من جراح روحي.
فقد كانت أيام كآبتي طويلة ضمن جدرانها، وأطول منها كانت ليالي وحدتي وانفرادي، ومن ذا يستطيع ان ينفصل عن كآبته ووحدته من غير ان يتألم في قلبه؟
كثيرةٌ هي اجزاء روحي التي فرقتها في هذه الشوارع، وكثير هم ابناء حنيني الذين يمشون عراة بين التلال، فكيف أفارقهم من غير ان أثقل كاهلي وأضغط روحي!
فليس ما أفارقه بالثوب الذي أنزعه عني اليوم ثم أرتديه غداً، بل هو بشرة أمزقها بيدي.
كلا، وليس فكراً أخلفه ورائي، بل هو قلب جملته مجاعتي وجعله عطشي رقيقاً خفوقاً.
***
بيد أنني لا استطيع ان ابطئ في سفري.
فإن البحر الذي يدعو كل الاشياء اليه يستدعيني، فيجب عليّ ان اركب سفينتي وأسير في الحال الى قلبه.
ولو أقمت الليلة ههنا، فإنني، مع ان ساعات الليل الملتهبة، أجمد وأتبلور وأتقيد بقيود الارض الثقيلة.
وانني اود لو يتاح لي ان يصحبني جميع الذين ههنا، ولكن أنّى يكون لي ذلك؟
فإن الصوت لا يستطيع ان يحمل اللسان والشفتين اللواتي تسلحن بجناحيه، ولذلك فهو وحده يخترق حجب الفضاء.
أجل، والنسر، يا صاح، لا يحمل عشه بل يطير وحده محلقاً في عنان السماء.
وعندما بلغ المصطفى سفح التلة التفت ثانية الى البحر فرأى سفينته تدنو من المرفأ، وأبناء بلاده يروحون ويجيئون على مقدمتها.
فهتف لهم من صميم فؤاده وقال:
يا أبناء أمتي الاولى، أيها الراكبون متون الامواج المذللون مدّها وجزرها.
كم من مرة ابحرتم في احلامي؟! وها قد اتيتم ورأيتكم في يقظتي التي هي اعمق احلامي.
انني على أتم الأهبة للإبحار، وفي أعماقي شوق عظيم يترقب هبوب الريح على القلوع بفارغ الصبر.
ولكنني اود اتنفس مرة واحدة في هذا الجو الهادئ وأن ابعث بنظرة عطف واحدة الى الوراء.
وحينئذ أقف معكم، ملاّحاً بين الملاحين.
اما انت ايها البحر العظيم، ايها الأم الهاجعة.
انت ايها البحر العظيم الذي فيك وحدك يجد النهر والجدول سلامهما وحريتهما.
فاعلم ان هذا الجدول لن يدور الى دورة واحدة بعد، ولن يسمع احد خريره على هذا المعبر بعد اليوم، وحينئذ آتي اليك، نقطة طليقة الى اوقيانوس طليق.
****
وفيما هو ماشٍ رأى عن بعد رجالا ونساء يتركون حقولهم وكرومهم ويهرولون الى ابواب المدينة.
وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل الى حقل مرددين اسمه وكل منهم يحدّث رفيقه بقدوم سفينته.
***
فقال في نفسه:
ايكون يوم الفراق يوم الاجتماع؟
ام يجري على الافواه مسائي كان فجراً لي؟
وماذا يجدر بي ان اقدم للفلاح الذي ترك سكنه في نصف تلمه، وللكرّام الذي اوقف دولاب معصرته؟
ايتحول قلبي الى شجرة كثيرة الاثمار فأقطف منها وأعطيهم؟
ام تفيض رغباتي كالينبوع فأملأ كؤوسهم؟
هل انا قيثارة فتلامسني يد القدير، ام انا مزمار فتمر بي انفاسه؟
اجل ، انني هائم انشد السكينة، ولكن ما هو الكنز الذي وجدته في السكينة لكي اوزعه بطمأنينة؟
وان كان هذا اليوم يوم حصادي ففي اية حقول بذرت بذاري، وفي اي فصل من الفصول المجهولة كان ذلك؟
وان كان هذه هي الساعة التي يجدر بي ان ارفع فيها مصباحي واضعاً اياه على منارتي، فإن النور الذي يتصاعد منه ليس مني.
لأنني سأرفع مصباحي فارغاً مظلماً.
ولكن حارس الليل سيملأه زيتاً، وسينيره ايضاً.
قال هذا معبراً عنه بالالفاظ ولكن كثيراً مثل هذا حفظه في قلبه من غير ان يعلنه، لأنه هو نفسه لم يقدر ان يوضح سره العميق.
****
وعندما دخل المدينة استقبله الشعب بأسره، وكانوا يهتفون له مرحبين به بصوت واحد.
فوقفه شيوخ المدينة وقالوا له:
بربك لا تفارقنا هكذا سريعاً.
فقد كنت ظهيرة في شفقنا، وقد اوحى شبابك الاحلام في نفوسنا،
وأنت لست بالغريب بيننا، كلا، ولا انت بالضيف بل انت ولدنا وقسيم ارواحنا الحبيب.
فلا تجعل عيوننا تشتاق الى رؤية وجهك.
ثم قال له الكهان والكاهنات:
لا تأذن لأمواج البحر ان تفصل بيننا، فتجعل الاعوام التي قضيتها بيننا نسياً منسيا.
فقد كنت فينا روحاً محيية، وكان خيالك نوراً يشرق على وجوهنا.
قد تعشقتك قلوبنا، وعلقتك ارواحنا.
ولكن محبتنا تقنعت بحجب الصمت، فلم نستطع ان نعبر عنها.
بيد انها تصرخ اليك الآن بأعلى صوتها، وتمزق حجبها بيديها لكي تظهر لك حقيقتها.
فإن المحبة منذ البدء لا تعرف عمقها الى ساعة الفراق.
***
ثم جاء اليه كثيرون متوسلين متضرعين، فلم يرد على احد جواباً، ولكنه كان يحني رأسه، وكان الواقفون حوله ينظرون عبراته تتساقط بغزارة على وجنتيه وصدره.
وظل يمشي مع الشعب حتى وصلوا الى الساحة الكبرى امام الهيكل.
يتبع......
من السهل ان تعرف كيف تتحرر ولكن من الصعب ان تكون حراً
|