حالتان:
أ. بعضهم ينكر الحزن والأسى: كيلي (19 سنة) طالبة جامعية مرت سابقًا بخبرة موت والدها؛ وقد كانت موضع دراسة پسيكولوجية حول ظاهرة الموت والحزن على المتوفى. لقد قالت إنه لدى وفاة والدها منذ خمس سنوات أنكرت الحدث ورفضتْه، معتقدةً أنه لم يمت أبدًا، بل مازال حيًّا، قانعةً نفسها بأنه مسافر في إجازة وسوف يعود. إن العديد من أشكال التفكك قد حدث في الأسرة، حتى إن اسم الأب بات من النادر ذكرُه ولم يعد أحد يزور قبره. كذلك الأمر مع صديقاتها اللائي لم تكن لتعترف لهن بأنه مات إطلاقًا؛ غير أن بعض الأصدقاء المقربين كان يعرف أنها يتيمة الأب.
كيلي تصف نفسها بأنها لم تمر بمشاعر حب أو حزن وبأنها تحسد الناس الذين يبدون عفويين ومبتهجين. وقد كتبت بعض القصائد لأستاذها، تعبِّر فيها عن مدى خسارتها وافتقادها لوالدها وعن رغبتها الشديدة في زيارة قبره التي يحول الخوفُ دونها. أما الآن، وبعد مرور خمس سنوات على وفاته، فقد بدأت بالتعبير عن مشاعر الحزن والأسى على موته، كما بدأت تسمح لنفسها بالشعور بالألم، وستكون لاحقًا قادرة على أن تعيش خبرة التمتع والابتهاج بحياتها على نحو مشابه أيضًا.
ب. تقبُّل الحزن والأسى: توني (17 سنة) خَبِرَ وفاة جدِّه البالغ من العمر 57 سنة بسبب نوبة قلبية. ولقد تحدث إلى الكثيرين عن جدِّه، عن أي نوع من الرجال كان، وقال إنه حزن كثيرًا على وفاته. إن المثير هو الإصغاء لوضعه إجمالاً ولردود أفعاله على مأتم جده وجنازته. ولأن جده كان شخصية مرموقة فإن حشودًا ضخمة حضرت الجنازة والكثير من الناس مازالوا يتحدثون عنها. لذلك بكى كثيرًا، وكان من الصعب عليه أن يعيش تلك الخبرة الانفعالية. وقد شدد جده قبل أن يموت على أنه لا يريد مأتمًا بعد الجنازة لأنه لا يريد للناس أن يعيشوا خبرة الحزن تلك. وعلى الرغم من الصعوبة التي يشعر بها توني حين يتألم أو يلاحظ ألم الآخرين فإن ذلك يمكِّنه من التعامل تعاملاً فعالاً مع موت جدِّه. صحيح أن ردَّ فعله كان سلبيًّا حيال الجنازة والمأتم، لكنه، على العكس من كيلي، لم يتنكر لمشاعر الحزن والأسى في نفسه.
للكثير من المجتمعات طقوس وشعائر rituals خاصة بالأسى والتعزية والمآتم والحِداد. فالممارسات الطقوسية الجنائزية في مجتمعات مثل المجتمعين الإيرلندي والروسي تعبِّر عن مشاعر الحزن وتُظهِرها صراحة. وتوجد لدى العديد من المجتمعات، كما في بلادنا، فترة حداد رسمي تدوم عادة سنة كاملة؛ ولدى بعضها الآخر طقوس لمساعدة الناس في انفعالاتهم التي تظهر في الذكرى السنوية للوفاة. ثمة في هذه الثقافات أو المجتمعات سمة واحدة تشترك فيه جميعًا هو الانخراط المباشر في خبرة الحداد والحزن والانشغال بهما. أما في المجتمعات الأمريكية، فيُمنع الأشخاصُ الذين مروا سابقًا بتلك الخبرة من أن يعيشوها أو يَخبَروها ثانية، حيث يُمنعون من الذهاب إلى المقبرة.
إن الاتجاه الحديث في البحوث الپسيكولوجية هو أن يَخبَر الأشخاص موت الأفراد المحببين إليهم فعليًّا بحيث يعبِّرون عن انفعالاتهم ومشاعر حزنهم، فيحضرون المآتم لما لها من آثار إيجابية أنجع بكثير من عملية قمعها repression.
الموت بالمعنى النفسي
عند الحديث عن الموت، وجد بعض العلماء (ومنهم ج. كوري) أن من الضروري توسيع مفهوم الموت، بحيث يشمل الموت بمعناه الپسيكولوجي والاجتماعي بطريقة ما. فلعل الشيء الميت أو الذي يموت فينا هو شيء نريد إعادة إحيائه أو بعثه من جديد، أو شيء ما لا بدَّ أن يموت من أجل القيام بإحياء وإنماء جديدين. هناك أشياء تنمو ونريد لها أن تتقدم في العمر، في حين أن ثمة أشياء أخرى نسرِّع في موتها قبل أوانه الفعلي. إنك تتخلى عادة عن خبرة أمان الحياة والطمأنينة في كنف والديك، مع بقائها حيةً فيك، بحيث تنمو، وذلك من أجل الإمساك بزمام مرحلة الانفصال القادمة والعيش المستقل. وربما فقدتَ شيئًا ما ذا قيمة لك، حتى وإنْ كان متناقضًا مع نموك أو تطورك اللاحق. سنتحدث الآن عن بعض الأشياء التي ندعها تموت فينا أحيانًا وتلك التي نود بعثَها حية من جديد.
هل يمكن لك أن تكون عفويًّا ومازحًا؟
هل الطفولة جزء من حياتك أم أنك دفنتها عميقًا في أغوار نفسك؟ هل يمكن لك أن تكون مرحًا وهزليًّا، ضحوكًا وعفويًّا؟ باعتبارنا "راشدين"، كثيرًا ما نكون جديين للغاية، فاقدين لقدرتنا على الضحك. إذا وجد الشخص نفسه واقعيًّا وموضوعيًّا في الاعتراف بذلك فإن من الصعب عليه أن يكون مرحًا ضحوكًا؛ وعليه أن يتساءل عن الرسائل الداخلية التي تمنعه من الانطلاق: هل يقمعها الفرد تجنبًا للأخطاء وخوفًا منها؟ هل يخشى أن تُطلَق عليه صفةُ "السذاجة" أو أن يقابله الآخرون بالاستهجان؟ إن في إمكان الشخص أن يتحدى هذه الرسائل الداخلية التي تقول: "لا تفعل"، "افعل"، أو "يحسن بك ألا تفعل"، فيجرب سلوكًا جديدًا يتحلى بصفات البساطة والمرح والعفوية؛ وفي إمكانه بعدئذٍ أن يحدد إنْ كان يرغب في السلوك الجديد الذي يشبه سلوك الأطفال في بعض الأوقات أو في أكثرها. ومهما يكن قرار الفرد فإن ذلك يتوقف عليه بالذات، ويجب أن يصدر عنه صدورًا أصيلاً بدلاً من أن يكون من بقايا الماضي.
هل تعيش مشاعرك وتحياها؟
في إمكاننا أن نكبت الكثير من المشاعر فينا ونُميتَها، سواء كانت مفرحة أو مؤلمة؛ إذ يمكن لنا أن نقرر أن تلك المشاعر تتضمن خطر مكابدة الألم وأن من الأفضل لنا أن نفكر في المضيِّ قُدُمًا في طريقنا في الحياة. وفي حال اختيارنا كظم مشاعر الاكتئاب والحزن، غالبًا ما نكبح قدرتنا على التمتع والابتهاج أيضًا. إن الانغلاق على بساطتنا وضعفنا يعني الانغلاق على قوَّتنا أيضًا. يمكن للفرد أن يقيِّم إحياءه لحالته الانفعالية ولمشاعره عن طريق الإجابة عن الأسئلة التالية:
1. هل أدع نفسي أبكي إذا شعرت برغبة في البكاء؟
2. هل مررتُ بحالة ابتهاج غامر ووَجْد؟
3. هل أجيز لنفسي البقاء قريبًا جدًّا من شخص آخر، لصيقًا به؟
4. هل هناك بعض المشاعر التي أكظمها وأكتمها؟
5. هل أخفي مشاعر عدم الأمان والخوف والاتكال والغضب والملل؟
هل أنت حي في علاقاتك؟
إن لعلاقاتنا مع الناس المهمِّين في حياتنا طريقها الخاص إلى الضعف والانحلال أو الخمود. من السهل عليك أن تكوِّن علاقاتٍ مع غيرك تتخذ وجهةً روتينيةً واعتياديةً، بحيث تفقد كلَّ إحساس بالدهشة أو بالعفوية. هذا النوع من التمويت وفقدان الحيوية يشيع شيوعًا خاصًّا في بعض العلاقات الزوجية؛ لكن من شأنه أن يؤثر في علاقاتنا بعامة وأن يُضعِفها أيضًا. وعندما تنظر إلى العلاقات المهمة ذات المغزى في حياتك، عليك أن تفكر في كيفية إحيائها فيك وتفعيلها في الآخر. هل تعطي لكلِّ شخص مجالاً للنمو والتطور والارتقاء؟ وهل تستثير العلاقةُ طاقتَك وتحفز نشاطَك في الحياة؟ هل تعيش علاقة راسخة ومريحة؟ إذا شعرت أنك لم تحصل على ما تريد من علاقة مع أصدقاء أو من علاقة حميمة، لا مناص لك من أن تتساءل: ماذا في وسعي عملُه لإحيائها ودفعها دفعًا حيويًّا؟ إن مطالبة الشخص بهذا من الأفراد الذين يعقد معهم علاقات ذات مغزى قد يبعث فيهم أيضًا حياةً جديدة.
إلى أية درجة يعيش الشخص حياته؟
لقد بيَّنت البحوثُ الپسيكولوجية أن بعض الناس لم يقيِّموا تقييمًا واقعيًّا الدرجةَ أو الأوقاتِ التي يعيشون فيها حياتهم فعلاً. فتخيل أنك واحد من أولئك الناس الذين سيطر عليهم الروتين والملل يوميًّا ولم يقدِّروا نوعية حياتهم وطبيعتها حق قدرهما. هل قيل لك إنك في غالبية أوقاتك لا تعيش حياتك؟ إن الإنسان يبدأ بالنظر إلى ما فقده وإلى الأشياء التي يجب أن تكون على غير ما هي عليه الآن. فللنَّظر في الفرص المختلفة والنقاط الجوهرية ذات المغزى في الحياة أهمية كبرى في عملية التقييم هذه. فقد يشعر الشخص بأن عليه أن يكف عن كثير من الأشياء "العقيمة" في حياته قبل أن يتداركه الوقت.
إن واحدًا من الأمور التي ينبغي على الإنسان أن يفكر فيها جديًّا ويتخيلها هي قضيةُ موته، بما يشمله من جنازة ومأتم وتوقُّع لما سيقوله الناس بعد موته أيضًا. ويمكن للشخص أن يدوِّن ذلك كلَّه تدوينًا منهجيًّا على الورق، بما يتيح له أن يتطلع إلى حياته الحالية وإلى ما يرغب أن تكون عليه. من هنا نقول إن تقبُّل الموت يرتبط ارتباطًا وثيقًا باكتشاف معنى الحياة. فذلك يتيح لنا أن نتعلم كيف نعيش بحق. وهنا نتذكر قول بعضهم: "ليس المهم أن نعيش حياة طويلة، بل أن نعيش حياة عريضة."
محمد قاسم عبدالله
في البدء لم يكن اول افعال الله انتشارا نحو الخارج , , بل طي , انقباض .....
في البدء لا بد ان الله انسحب , انطوى , ميسرا بذلك ولادة العالم .....
في البدء كان الكلمة .....
مملكتي ليست من هذا العالم .....
|