وكان من حديث الصليب المسيح على زعمهم الكاذب وقتل ودفن، رفع من القبر إلى السماء، وكان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبل إلى موضع الصلب ويصلون، فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى وسيكون له نبأ، وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مزبلة عظيمة، فلما كان في أيام قسطنطين الملك، جاءت زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب، فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس والخليل مئة رجل، واختارت منهم عشر واختارت من العشر ثلاثة اسم احدهم يهوذا، فسألهم أن يدلوها على الموضع، فامتنعوا وقالوا: لا علم لنا بالموضع، فطرحتهم في الحبس في جب لا ماء فيه، فأقاموا سبعة أيام، لا يطعمون ولا يسقون فقال يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب فصاح الاثنان، فأخرجوهما، فخبراها بما قال يهوذا، فأمرت بضربه بالسياط، فأقر وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة، وكان مزبلة عظيمة، فصلى وقال: اللهم إن كان في هذا اموضع فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان، فتزلزل الموضع، وخرج منه ثلاثة صلبان، فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟ وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة، وقد أيس منه، فوضع الصليب الأول عليه، ثم الثاني، ثم الثالث، فقام عند الثالث، واستراح من علته، فعلمت أنه صليب المسيح، فجعلته في غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين.
وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب: ثلاث مئة وثلاث وعشرون سنة.
هذا كله نقل سعيد بن بطريق النصراني!
والمقصود انهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعدالمسيح بهذه المدة.
وسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني، مع انقطاعها، وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة.
ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها، أن الصليب الذي شفى العليل، كان أولى أن لا يميت الإله الرب المحيي المميت.
ومنها: أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلاثة مئة ولاث وعشرين سنة إنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة.
فإن قال عباد الصليب: إنه لما مس جسم المسيح، حصل له الثبات والقوة والبقاء!
قيل لهم: فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به؟!
فإن كانت هذه الحكاية صحيحة فما أقربها من حيل اليهود التي تخلصوا به من الحبس والهلاك.
وحيل بني آدم تصل الى اكثر من ذلك بكثير، ولا سيما لما علم اليهود ان ملكة دين النصرانية قاصدة الى بيت المقدس، وانها تعاقبهم حتى يلدوها على موضع القتل والصلب، وعلموا انهم ان لم يفعلوا ذلك لم يتخلصوا من عقوبتها.
ومن كذبهم:
انهم يقولون : ان المسيح لما قتل غار دمه ولو وقع منه قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت.
فيا عجبا! كيف يحيا الميت ويبرأ العليل بالخشبة التي شهر عليها وصلب؟! اهذا كله من بركتها، وفرحها به، وهو مشدود عليه يبكي ويستغيث؟!
ولقد كان الاليق ان يتفتت الصليب ويضمحل لهيبه من صلب عليه وعظمته، ولخسفت الأرض بالحارضين عند صلبه، والمتمالئين عليه، بل تتفطر السموات، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا.
ثم يقال لعباد الصليب: لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده أو مع اللاهوت:
فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده، فقد فارقته الكلمة، وبطل اتحادها به، وكان المصلوب جسدا من الأجساد، ليس بإله، ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية البتة.
وإن قلتم: إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا، فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته، وقدرة الخلق أذاه، وهذا أبطل الباطل.
أما شريعة النصارى ودينهم، فليسوا متمسكين بشئ من شريعة المسيح، ولا دينه البتة:
فأول ذلك: أمر القبلة، فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مطلع الشمس، على علمهم أن المسيح عليه السلام لم يصل إلى الشرق أصلا، بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بنحو ثلاثة مئة سنة، وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس، وهي قبلة الأنبياء قبله، وإليها كان يصلي النبي عليه الصلاة والسلام مدة مقامه بمكة، وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا، ثم نقله الله ـ تعالى ـ إلى قبلة أبيه إبراهيم.
ومن ذلك: أن طوائف منهم ـ وهم الروم وغيرهم ـ لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبول أحدهم ويتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة فيستقبل الشرق، ويصلب على وجهه، ويحدث من يليه بأنواع الحديث، كذبا كان او فجورا او غيبة او سبا وشتما، ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير، وما شاكل ذلك، ولا يضر ذلك في الصلاة ولا يبطلها، وإن دعته الحاجة إلى البول في الصلاة بال وهو يصلي،ولا يضر صلاته.
وكل عاقل يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة: قبيح جدا، وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه، أقرب منه إلى الرضا والثواب.
ومن العجب أنهم يقرأون في التوراة: "ملعون من تعلق بالصليب"، وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه، ولو كان لهم أدنى عقل، لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب حيث وجدوه ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة، فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم ـ بزعمهم ـ وأهين عليه وفضح وخزي.
فيا للعجب! بأي وجه ـ بعد هذا ـ يستحق الصليب التعظيم، لولا أن القوم أضل من الأنعام؟!
وتعظيمهم للصليب، مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان، ولا ذكر له في الإنجيل البتة، وإنما ذكر في التوراة باللعن لمن تعلق به فاتخذته هذه الامة معبودا يسجدون له وإذا اجتهد أحدهم في اليمين، بحيث لا يحنث ولا يكذب، حلف بالصليب، ويكذب إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب.
ولو كان في هذه الامة ادنى مسكة عقل لكان ينبغي لهم ان يلعنوا الصليب من اجل معبودهم والههم حيث صلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرض حيث قتل قابيل أخاه، وكما في الانجيل: "إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان".
فلو عقلوا، لكان ينبغي لهم أن لا يحملوا صليبا، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكرونه، بألسنتهم، وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره.
ولقد صدق القائل: عدو عاقل خير من صديق أحمق!! لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح، فاجتهدوا في ذمه وتنقصه، والإزراء به، والطعن عليه، ,كان مقصودهم ـ بذلك ـ التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم، وإغرائهم بهم، فنفروا الامم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا ان الدين لا يقوم بذلك، فوضع بهم رهبانهم وأساقفتهم ـ من الحيل والمخاريق أنواع الشعبذة ـ ما استمالوا به الجهال وربطوهم به، وهم يستجيزون ذلك، ويستحسنونه، ويقولون: يشد دين النصرانية!
ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب، جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح وهو عليه، ثم لما دفن صار قبره في الأرض! وليس وراء هذا الحمق والجهل حمق، فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك، بل من أعظم الشرك.
ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب ولا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينة.
فإن قلتم: الصليب ـ من حيث هو ـ يذكر بالصليب الذي صلب عليه إلهنا!
قيل: وكذلك الحفر تذكر بحفرته، فعظموا كل حفرة، واسجودا لها، لانها كحفرته، بل أولى، لأن خشبة الصليب لم يستقر عليها استقراره في الحفرة.
ثم يقال اليد التي مسته أولى أن تعظم من الصليب، فعظموا أيدي اليهود لمسهم إياه، ومساكهم له، ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي.
ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة أن مث هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة: شدوه بالحيل والصور في الحيطان، بالذهب واللازورد والزنجفر، وبأعياد محدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر.
والله لقد صدق القائل: إن هذه الأمة عار على بني آدم أن يكونوا منهم
|