هذه الأدلوجة الباهرة: (التساوي مع اسرائيل في حقوق قمع الشعب) هي التي تلقفتها الخارجية السورية ووزارة الاعلام في الهتاف بهذه الأدلوجة بوصفها اكتشافا نظريا ابداعيا سورية خاصا، ولأول مرة تشارك الصحافة السورية في شن الحملات على الاتحاد الأوروبي تحت راية هذا الشعار المعبر عنه بلسان وزير الاعلام الذي "أبدى استهجانه حيال بيان الاتحاد الأوروبي حول حقوق الانسان الذي يتجاهل في الوقت ذاته حقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق ومؤكدا أن هذا البيان تدخل سافرا في الشؤون الداخلية للبلدان وانتهاك للقوانين والمواثيق الدولية".
ان أي دارس مبتدئ للنصوص، لا يمكن أن يفهم غير ما فهمناه أو يتأول إلا ما تأولناه حول معنى ودلالة الاحتجاج "أن الاتحاد الأوروبي .. يتجاهل حقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية" بينما يحرم النظام السوري من هذالامتياز!؟
هذا الاعتراض في فهم الموقف الرسمي السوري (الخارجية والاعلام) غير دقيق لأن نقد الغرب الرسمي والشعبي لسياسات اسرائيل، أدى لأن يكون 60% من الرأي العام الأوروبي يعتبر أن اسرائيل هي مصدر الخطر على السلم العالمي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وهو الأهم والأخطر أن الخارجية والاعلام كأنهما يستبطنان شعورا (متغربا عن المجتمع)، وذلك باستبطانهما لهذا التشبيه بين النظام السوري والاسرائيلي الذي يتكشف عن "هفوة لا شعورية" عندما لا ينتبه إلى أنه بهذا التشبيه يتجاهل الفروق في دلالة التشابه بين "السلطة الاستيطانية الاستعمارية الاسرائيلية" وبين سلطة يفترض أنها وطنية..! هل يعقل أن الخارجية والاعلام وكتائبهم وسراياهم من الاعلاميين والصحافيين أنهم لم يخطر لهم أن يتساءلوا: هل نمط العلاقة بين السلطة الاسرائيلية ومجتمعها هي ذات نمط العلاقة بين السلطة السورية ومجتمعها؟ وهل التناقض بين السلطة الاسرائيلية والشعب الفلسطيني هو التناقض ذاته بين السلطة السورية والشعب السوري؟!
إن دلالة هذه المقارنة التي عبر عنها خطاب الخارجية والاعلام، لم يكن ليفقد الاعلان: (اعلان بيروت - دمشق) حصافته فيوحي بما أوحت به اعلانات وزارتي الاعلام والخارجية وكتائبهما الاعلامية.. ولم يكن لتخطر هذه الدلالة - أو الايحاء بها - على بال (الموقعين الخائنين) حسب تعبير اعلاميي النظام الذين وجهت له أوامر النزول الى ساحة النضال للزحف ضد من يفترض أنهم زملاؤهم واخوتهم في المثل العليا للثقافة، فلم يتجرأ أي واحد من هؤلاء الصحفيين والكتاب -لا سيما ممن لانزال نحمل له بقية من احترام - يعترض ولو بالقلب - على اعتقال زملائهم!
بل استُفز - من يفترض أنه أنظفهم - من بيان الاتحاد الأوروبي لذات الأسباب، وهو ينخرط في النفير الاعلامي، ليندد بالبيان الأوروبي الذي يصمت على عملية الاغتيال الممنهجة ضد الفلسطينيين، بينما يعتبر "توقبف عدة أشخاص" خرقا (واسع النطاق)؟
هذا الكلام لأهم موهبة قصصية ظهرت في السبعينات، لكن بعد أربعة عقود من اليباب، إذ يصبح الاجرام بحق انسانية الانسان تحسب بوصفها مسألة كمية "عدة أشخاص"، وليس مهما له أن بين "هذه العدة الصغيرة من الأشخاص" أصدقاء له، ونحن الذين نشأنا سوية نردد فكرة (كانت) - عن مامعناه - إن إزالة بسمة عن وجه طفل واحد في العالم هو اساءة للانسانية جمعاء ولا تبررها أي ادعاءات للفضيلة أو القضايا الكبرى، هل فكر ابن جيلنا القاص بعدد بسمات الأطفال التي ستتلاشى بتلاشي آبائهم في الزنازين، بسبب فكرة، ولو كانت كفرا، وهو الذي يعرف كم يحفل تراثنا العربي والاسلامي بهراطقة وزنادقة، ظلوا أحرارا كرماء، وحفظهم التراث الحضاري العربي والاسلامي حتى اليوم كرماء مكرمين في أضرحتهم المعروفة عبر القرون، رغم أنهم أنتجوا هرطقتهم في العصور الوسطى، وليس في زمن سور التغيير والتحديث والاصلاح..!
بل الكارثة تبلغ ذروتها عندما يأتي من يفترض أنه يمثل (الضمير الالهي) وهو مفتي الجمهورية ليحتج لدى السفير الفرنسي، وهو ينطلق من المنهج ذاته، حيث حمل اليه عدد معتقلي الرأي الفلسطينيين في اسرائيل (أي أن عدد المعتقلين الفلسطينيين في سجون اسرائيل أكثر مما لدينا من معتقلين!)، ولم يسعف المفتي كل علومه الفقهية أن هذا القياس فاسد عقلا وشرعا: فاسد عقلا لأنه من الممتنع منطقيا أن يكون الشعب السوري بالنسبة لحكامه، كالشعب الفلسطيني بالنسبة لحكامه، وفاسد شرعا، لأن الشرع الإلهي يبلغ في تسامحه في احترام حريات التعبير والتفكير حد: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فلست عليهم بمسيطر" فقد نزعت الرحمانية الإلهية حق السيطرة حتى عن النبي، فما بالك بالأخلاط والأوفاض والأوباش والرفاق؟
الم يخطر للمفتي أي انطباع سيتركه لدى الأوروبيين عن الدين الاسلامي وهو يبرر - أي يفتي - لنظامه أن يعتقل مثقفيه من أبناء بلده، أليس من حق الأوروبي أن يتساءل: اذا كان المفتي يفتي بحبس أبناء دينه بسبب حرية التعبير والتفكير فأي تسامح يحمله الاسلام تجاه الآخر، أي تجاه العالم غير الاسلامي!؟
ليتفق المفتي مع المثقف العلماني الذي يعتبرهم "بضعة أشخاص" لا يستأهلون هذا الرد الفعل الأوروبي! لقد قدم المفتي قائمة بعدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، فلماذا لم يتقدم بقائمة بأعداد الاسرائيليين اليهود المعتقلين في السجون الاسرائيلية كما سيتساءل الاتحاد الأوروبي..!!؟
طبعا ان الدعوة الى مساواة سورية واسرائيل في حقوق انتهاك حقوق الانسان، وادانة الأوروبيين لأنهم اهتموا بـ(بعض الأشخاص) في سورية ولا يهتمون بما يحدث في اسرائيل، ليست إلا دعوة تستبطن دلالة مضمرة مخجلة في اللاوعي الثقافي لخطاب بعض أهل النظام المتغطرسين، مؤداه أنهم غير آبهين لدرجة الشرعية أو اللاشرعية في علاقتهم بمجتمعاتهم حتى لو تمت مقارنتهم باسرائيل، فهل هناك سذاجة - أو ربما خبث- أبعد من أن تطلب المقارنة بين النظام الذي يفترض أنه وطني (ابن البلد والوطن والأهل) بنظام (استعماري استيطاني)؟!
وهل يكون المثقف السوري وطنيا، عندما يكون حياديا في النظر الى بنية النظامين بوصفهما بنية واحدة، يجب عندما تدان الواحدة أن تدان الأخرى؟ هل أهل النظام وصحفه جادون فعلا في أن يعتبروا علاقتهم بشعبهم ومجتمعهم، تماثل العلاقة بين السلطة الاسرائيلية والشعب الفلسطيني الذي يدخل حرب (كينونة) ضد السلطة الاسرائيلية؟ هل يرون أن المعركة بينهم وبين المجتمع هي معركة كينونة كما هي معركة النظام الاسرائيلي ضد الفلسطينيين؟ ولذلك يستفزهم شعار "المصالحة الوطنية"،على اعتبار أن طرفي الصراع يدخلان معركة وجود، أن أكون أو تكون؟ أي اما السلطة واما المجتمع، وعلى هذا تستحيل المصالحة!؟
لقد استطاع الرفيق (الستاليني / البكداشي) أن يبلِّع أهل السلطة هذا الطعم الايديولوجي باخلاص، فاستساغوه، وتأسيسا عليه بنوا فلسفتهم (التخوينية)، القائمة على فكرة أن الآخر الأوروبي "ينتهك السيادة ويتدخل بالشؤون الداخلية السورية بينما لا يتدخل بالشؤون الاسرائيلية"، وعلى هذا فالسيادة اذن هي احترام حقهم الداخلي في انتهاك حريات مجتمعاتهم، مثلما يحترم الاتحاد الأوروبي سيادة اسرائيل في انتهاك حريات الفلسطينيين ولا يتدخل في شؤونها.
اذن إن المساواة مع اسرائيل بحقوق التساوي في انتهاك حقوق الانسان حسب - خطاب وزير الاعلام وصحافته وصحفييه - يبنى عليها مفهوم السيادة، ويغدو موضوعها واحدا عندما تستند الى آلية المماثلة والمقايسة مع اسرائيل، وهي فكرة "العلاقة الاستعمارية مع المجتمع"، ومن ثم يغدو أي خروج على هذا القياس سيعني الخيانة حسب منطوق الصحافة الوطنية (تشرين)..
لن نعطي هذه الجريدة البائسة شرف حق الاستحواذ على النطق باسم الوطنية من خلال سرد السجل الوطني لكل المعتقلين - الذين في كل الأحوال - قضوا حياتهم رفضا لهذا المنطق الذي يساوي بين آلية النظامين (السوري والاسرائيلي) كما تفعل نشرين وأخواتها، اذ كانوا جميعا، يريدون للنظام أن لاتكون علاقته بمجتمعه كعلاقة اسرائيل الاستيطانية الاستعمارية العنصرية بالشعب الفلسطيني، ويريدون للنظام أن يقنعوه أن هذاالمجتمع الذي يتعاملون معه بكره وعدائية، هو الأهل وذوي القربى وأبناء الوطن .. ولكي لا نطيل يكفي هؤلاء شرفا أن بينهم من وقع على بيان / 52 / مثقفا الذين رفضوا صفقة مشاركة جيشهم في قوات التحالف ضد العراق في حرب الخليج الأولى 1991، ودفعوا لأجل ذلك - ودفعنا الضريبة حصارا واعتقالا - لكي لا يكون هناك بقعة سوداء في سجل التاريخ الوطني لسورية!
|