كتاب الماركسية...الجزء الخامس.
وإذا اندلعت الحرب، فكل الرجال من الشباب يشاركون فيها تحت قيادة يتم اختيارها مخصوص للقيام بهذه المهمة، ومرة أخرى بدون أي هيكل منفصل للجيش.
لكن بمجرد أن يكون لديك مجتمع تسيطر فيه أقلية على معظم الثروة، تصبح هذه الطرق البسيطة للحفاظ على "القانون والنظام" وتنظيم الحرب غير فعالة.
ويصبح أي اجتماع للممثلين أو أي تجمع للشباب المسلح من المرجّح أن ينقسم بناء على الفروق الطبقية.
تستطيع المجموعة ذات الامتيازات أن تحيا فقط من خلال احتكارها لِسَنّ وتنفيذ العقوبات والقوانين وتنظيم الجيوش وإنتاج الأسلحة.
وهكذا، نجد أن الفصل بين الطبقات كان مرتبطا بظهور جماعات القضاة ورجال الشرطة والبوليس السري والجنرالات والبيروقراطيين، بحيث يحصل كل منهم على جزء من الثروة التي في يد الطبقة صاحبة الامتيازات في مقابل حماية حكمها أو سلطتها.
إن أولئك الذين خدموا في صفوف هذه "الدولة" كانوا مدربين على طاعة أوامر قادتهم بدون تردد، كما كانوا مفصولين عن أية روابط اجتماعية عادية مع الجماهير المستغَلة.
وهكذا، تطورت الدولة كآلة للقتل في يد الطبقة المتميزة واستطاعت أن تكون آلة فعالة للغاية.
بالطبع، أراد الجنرالات الذين يديرون هذه الآلة أن يوقعوا بالإمبراطور أو الملك المعين لكي ينصّبوا أنفسهم في مكانه.
أما الطبقة الحاكمة التي سلحت هذا الوحش فلم يكن في مقدورها في الكثير من الأحيان أن تسيطر عليه. ولكن لأن الثروة المطلوبة لإبقاء آلة القتل دائرة تأتي من استغلال مجاميع العمال، فإن أي تمرد كان يتبعه استمرار للمجتمع الذي كان موجودا في السابق.
وعلى مدار التاريخ، نجد أن البشر الذين أرادوا بالفعل تغيير المجتمع للأفضل قد وجدوا أنفسهم في مواجهةمع - ليس فقط الطبقة صاحبة الامتيازات - ولكن أيضا تلك الآلة المسلحة: الدولة التي تخدم مصالحها.
لقد نشأت في الأساس الطبقات الحاكمة ومعها القساوسة والجنرالات ورجال الشرطة والنظم القانونية التي دعمتها لأنه بدونهم لم تكن للحضارة أن تتطور. لكن بمجرد أن يثبّتوا أقدامهم في السلطة، يصبح لديهم مصلحة في إعاقة تطور الحضارة.
فسلطتهم تعتمد على قدرتهم على إخضاع أولئك الذين ينتجون الثروة بحيث يقدمونها لهم في النهاية.
كما أنهم يفقدون الاهتمام بالطرق الحديثة لإنتاج الثروة - حتى لو كانت اكثر كفاءة عن القديمة - خشية أن يفقدوا السيطرة عليها.
إنهم يخافون أي شيء يمكن أن يقود الجماهير المستغَلة إلى نمو مبادراتهم أو استقلاليتهم.
كما أنهم يخافون من نشأة مجموعات جديدة ذات امتيازات وثروة كافية تجعلهم قادرين على شراء الأسلحة وتسليح الجيوش الخاصة بهم.
وعند نقطة معينة، فإنهم يبدءون في تعويق تطور الإنتاج بدلا من مساعدته على التقدم للأمام.
على سبيل المثال، في فترة حكم الإمبراطورية الصينية، استند نفوذ الطبقة الحاكمة على ملكيتها للأرض وسيطرتها على القنوات والسدود التي كانت ضرورية للري من أجل تجنب الفيضانات.
ولقد مهّد هذا النفوذ الأساس لحضارة امتدت إلى حوالي 2000 سنة.
ولكن في نهاية تلك الفترة، لم يكن الإنتاج متقدم كثيرا عن البداية، على الرغم من ازدهار الفن الصيني واكتشاف الطباعة والبارود.
كل هذا في وقت كانت فيه أوروبا واقعة تحت نير العصور المظلمة.
وكان السبب في ذلك أنه عندما بدأت تظهر أشكال جديدة للإنتاج، حدث ذلك في المدن من خلال مبادرات التجار والحرفيين.
ولقد خشيت الطبقة الحاكمة هذا النمو في سلطة جماعة اجتماعية معينة والتي لم تكن تخضع لسيطرتها بشكل كامل. ولذلك، وبطريقة دورية، اتخذت السلطات الإمبريالية إجراءات صارمة لسحق الاقتصاد المتنامي في المدن ودفع الإنتاج لأسفل وتحطيم سلطة الطبقات الاجتماعية الجديدة.
إن نمو قوى جديدة للإنتاج - أي طرق جديدة لإنتاج الثروة - قد اصطدم مع مصالح الطبقة الحاكمة القديمة.
لقد تصاعد الصراع وكانت النتيجة هي التي حددت مستقبل المجتمع كله.
وفي بعض الأحيان، كانت النتيجة - كما في الصين - هي عدم السماح لأنماط جديدة من الإنتاج في الظهور، وظل المجتمع في حالة ركود لفترات طويلة من الزمن.
وفي بعض الأحيان الأخرى، كما في الإمبراطورية الرومانية، كان معنى عجز الأنماط الجديدة للإنتاج من التطور أنه في آخر الأمر لم تعد هناك ثروة كافية تُنتَج لإبقاء المجتمع قائما على قواعده القديمة.
ثم انهارت الحضارة وتحطمت المدن، فارتدّت الشعوب إلى نمط المجتمع البدائي الزراعي.
وفي أحيان أخرى، قامت طبقة جديدة على أساس نمط جديد للإنتاج واستطاعت تنظيم صفوفها، وبالتالي إضعاف ثم التخلص نهائيا وهزيمة الطبقات الحاكمة القديمة مع نظامها القانوني وجيوشها وأيديولوجيتها ومؤسساتها الدينة. بعد ذلك، استطاع المجتمع أن يتطور ويتقدم للأمام.
وفي كل حالة من تلك، وعندما كان أي من تلك المجتمعات في تقدم للأمام أو للخلف، اعتمد ذلك على الفريق الذي كسب الحرب بين الطبقات.
وكما هو الحال في أي حرب، لم يكن أبدا النصر محددا منذ البداية، ولكنه اعتمد على التنظيم والتماسك وقيادة الطبقات المتصارعة.
الفصل الرابع:
الرأسمالية:
كيف بدأ النظام
إن واحدة من أكثر النقاشات هزلاً هي التي تسمعها تقول أن الأوضاع لم يكن لها أن تختلف عما هي عليه الآن. ولكن الأوضاع بالفعل كانت مختلفة، ليس في مكان بعيد على الكرة الأرضية، ولكن هنا في هذه الدولة وليس منذ زمنا طويلا.
فمنذ حوالي 250 عاما، ربما اتّهمك الناس بالجنون إذا ما وصفت لهم العالم الذي نعيش فيه اليوم بمدنه الضخمة ومصانعه الكبيرة وطائراته ورحلات فضائه، وحتى بنظم السكك الحديدية. كان كل ذلك سيفوق خيالهم. لقد عاش الناس قديما في مجتمع تهيمن عليه الزراعة، ولم يخطوا غالبيتهم عشرة أميال خارج قراهم حيث تَحدّد نمط الحياة - كما كان سائدا لآلاف السنوات - على تعاقب الفصول.
ولكن منذ 700 أو 800 سنة، حدث تطور في المجتمع كان من نتائجه مناهضة النظام القائم بأكمله. بدأت مجموعات من الحرفيين وأصحاب الأعمال التجارية بناء مستقبلهم في المدن؛ فهم لم يعودوا يقدمون خدماتهم مقابل لا شيء للسيد الإقطاعي كما فعل باقي السكان، ولكنهم كانوا يبادلون منتجاتهم مع السادة والأقنان على اختلافهم مقابل الطعام.
وبشكل متزايد، أصبحوا يستخدمون المعادن الثمينة كمعيار لهذا التبادل.
وبالتالي، فالنظر إلى كل نوع من المبادلة كفرصة للحصول على عدد أكثر قليلا من المعادن الثمينة وتحقيق الربح لم يعد يمثل خطوة كبيرة للأمام.
في البداية، استطاعت المدن أن تبقى على قيد الحياة من خلال تأليب السادة الإقطاعيين ضد بعضهم البعض.
ولكن بتحسّن مهارات من لديهم من حرفيين، استطاعوا تكوين ثروة أكبر، وبالتالي زاد نفوذهم كثيرا.
فـ "البرجوازية" أو "الطبقات الوسطى" قد بدأت تظهر كطبقة من ضمن نسيج المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى.
ولكنهم استطاعوا أن يحققوا ثراءهم بطريقة مختلفة تماما عن السادة الإقطاعيين والذين كانوا يسيطرون على المجتمع.
فلقد عاش السيد الإقطاعي مباشرة على الإنتاج الزراعي الذي أخرجه عبيده من أرضه بالقوة.
فالسيد قد استخدم قوته الشخصية ليجعلهم يقومون بهذا العمل بدون أن يكون مضطرا لدفع أي أجر لهم.
وعلى عكس ذلك الوضع، عاشت الطبقات الغنية في المدن على بيع السلع غير الزراعية.
كما أنهم كانوا يدفعون للعمال أجورا من أجل إنتاج تلك السلع، إما باليوم أو الأسبوع.
وهؤلاء العمال، وهم في غالبيتهم من العبيد الهاربين، كانوا "أحراراً" في الذهاب والعودة كما شاءوا طالما أنهم انتهوا من العمل الذي يأخذون عليه أجراً.
أما الشيء الإلزامي "الوحيد" بالنسبة لعملهم فهو أنهم كانوا سيموتون من الجوع إذا لم يجدوا عملا عند أحد.
أما الأثرياء فكانوا يزدادون ثراءً لأن ذلك العامل "الحر" اضطر - بدلا من الموت جوعا - إلى أن يقبل بأجر على عمله أقل من قيمة السلع التي كان ينتجها.
وسوف نرجع إلى هذه النقطة فيما بعد.
أما ما يهمنا الآن فهو أن طبقة البرجوازيين الوسطى والسادة الإقطاعيين قد حصلوا على ثرواتهم من مصادر مختلفة تمام الاختلاف.
وهذا جعل لديهم الرغبة في أن يروا المجتمع منظماً بطرق مختلفة.
إن المجتمع المثالي بالنسبة للسيد الإقطاعي كان مجتمعا يتحقق له فيه النفوذ المطلق على أراضيه الخاصة وبدون التقيد بالقوانين المنصوص عليها أو تدخّل أي شخص من الخارج، وأيضا ضمان عدم هروب عبيده. أراد ذلك السيد أن تبقى الأوضاع كما كانت عليه في أيام والده وجده، بحيث يقبل كل فرد الوضع الاجتماعي الذي ولد به.
أما طبقة البرجوازيين الغنية الحديثة، فقد رأت الأمور بشكل مختلف. لقد أرادوا فرض قيود على نفوذ الإقطاعيين أو الملوك لكي يتدخلوا في أمور تجارتهم أو ليسرقوا ثروتهم. كان عندهم حلماً بتحقيق ذلك من خلال منظومة مستقرة من القوانين المكتوبة، يتم تجهيزها وفرضها بواسطة ممثلين لهم. فلقد أرادوا أن يحرروا الطبقات الفقيرة من العبودية حتى يستطيعوا العمل في المدن (ويزيدون من ثروة البرجوازيين).
فبالنسبة لهم هم شخصيا، نال آباءهم وأجدادهم الكثير من المعاناة تحت حكم السادة الإقطاعيين، فهم بالتأكيد لم يرغبوا في استمرار ذلك الوضع.
باختصار إذن، أراد البرجوازيون إحداث ثورة في المجتمع.
ولم تكن صراعاتهم مع النظام القديم بسبب عوامل اقتصادية فقط، ولكن أيضا لدوافع أيديولوجية وسياسية.
وتعلق الخلاف الأيديولوجي أساسا بالعامل الديني - في مجتمع نسبة الأمية غالبة به - حيث كان المصدر الرئيسي للأفكار العامة عن المجتمع هو خطبة الكنيسة.
وحيث أن الكنيسة في العصور الوسطى كان يديرها الأساقفة والرهبان، والذين كانوا ينتمون هم أنفسهم لطبقة السادة الإقطاعيين، فقد حرضت الكنيسة على الأفكار المؤيدة لتلك الطبقة وهاجمت الكثير من ممارسات برجوازيي المدن باعتبارها "خطايا".
ولذلك نجد أنه في ألمانيا، هولندا، إنجلترا وفرنسا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، قامت الطبقات الوسطى بالدعاية لدين خاص بهم:
البروتستانتية، وهي أيديولوجية دينية تدعو إلى حسن التدبير والاتزان والعمل الشاق (خاصة بالنسبة للعمال!)، وأيضا استقلالية الطبقات الوسطى عن نفوذ الأساقفة والرهبان.
لقد أبدعت الطبقة الوسطى إلهاً في خيالها، في مقابل إله العصور الوسطى.
واليوم، يُحكى لنا في المدرسة أو على شاشة التليفزيون عن الحروب الدينية العظمى أو الحروب المدنية لتلك الفترة كأنها كانت فقط نتاج للاختلاف الديني، وكأن الناس كانت تحارب وتموت لمجرد اختلافهم حول دور جسد أو دم المسيح في العشاء الربّاني.
ولكن كانت هناك الكثير من الأمور الخطيرة، خاصة الصراع بين نمطين للمجتمع مختلفين تمام الاختلاف ومبنيين على طريقين مختلفين لتنظيم إنتاج الثروة.
في بريطانيا، كسب البرجوازيون المعركة.
وعلى الرغم من كون ما حدث في تلك الأثناء يبدو مرعبا للطبقة الحاكمة اليوم، فإن أجدادهم وصلوا للسلطة بقطع رأس الملك وتبرير ذلك بما نصّ عليه لغو الأنبياء في التوراة.
|