كتاب الماركسية....الجزء الرابع.
لقد رأى الطوباويون أن هناك تغيير - ولكنهم قالوا أنه يأتي من السماء. أما الماديين الميكانيكيين فقد رأوا أن البشر يتكيفون بالعالم المادي ولكنهم لم يستطيعوا أبدا فهم كيفية حدوث التغيير.
ما رآه ماركس، من ناحية أخرى، هو أن البشر يتكيفون بالعالم من حولهم، ولكنهم يتفاعلون مع هذا العالم ويعملون لجعله أكثر صلاحية للسُكنى. وهم في ذلك يغيرون الظروف التي يعيشون فيها، وبالتالي فهم يغيرون من أنفسهم أيضا.
إن مفتاح فهم التغيير في المجتمع يكمن في فهم كيفية تعامل البشر مع مشكلة إنتاج طعامهم ومسكنهم وملبسهم. لقد كانت تلك هي النقطة التي انطلق منها ماركس.
ولكن هذا لا يعني أن الماركسيين يؤمنون بأن التطور في التكنولوجيا ينتج أوتوماتيكيا مجتمعا أفضل أو أن الاكتشافات العلمية تؤدي أوتوماتيكيا إلى تغيرات في المجتمع.
لقد رفض ماركس هذه الرؤية (والتي يطلق عليها أحيانا الحتمية التكنولوجية).
ومرة بعد أخرى في التاريخ، قامت الجماهير برفض الأفكار التي تطور من إنتاج الطعام والمسكن والملبس لأن هذا التطور يصطدم مع اتجاهات أو أنماط المجتمع السائدة.
ففي ظل الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، كانت هناك أفكار عديدة عن كيفية إنتاج محاصيل أكثر من مساحة أرض معينة ولكن الناس لم تفعل ذلك لأنه كان سيتطلب إخلاص في العمل أكثر مما يمكن الحصول عليه من العبيد وهم يعملون تحت ضغط الخوف من الكرباج.
وعندما حكم البريطانيون أيرلندا في القرن الثامن عشر، فقد حاولوا أن يوقفوا نمو الصناعة هناك لأنها اصطدمت مع مصالح رجال الأعمال في لندن.
فإذا جاء أحد وقدم طريقة معينة لكي يحل مشكلة نقص الطعام في الهند بذبح البقر المقدس، أو أن أحدا حاول توفير اللحم لكل فرد في بريطانيا من خلال تصنيع لحوم الفئران، فسوف يتم تجاهل هذا الشخص تماما بسبب تمسك الناس بالمفاهيم السائدة.
إن التطور في الإنتاج يتحدى المفاهيم القديمة والطرق القديمة لتنظيم المجتمع، ولكن هذا التطور لا يطيح بشكل أوتوماتيكي بتلك المفاهيم القديمة وأشكال المجتمع السائدة.
فالكثير من الناس تحارب أحيانا من أجل منع حدوث تغيير ما - وأولئك الذين يرغبون في استخدام طرق جديدة للإنتاج عليهم أن يحاربوا من أجل إحداث التغيير.
وإذا كسب المعركة أولئك الذين يعارضون التغيير، فلن يتم توظيف الأشكال الجديدة للإنتاج وسوف يصاب المجتمع بحالة ركود أو يتقهقر للوراء.
إن التعريف الماركسي يقول:
عندما يحدث تطور في قوى الإنتاج، فإنها تصطدم بالعلاقات الاجتماعية السائدة والأفكار التي نمت على أساس القوى الإنتاجية القديمة.
وحينئذ فإما أولئك الذين يؤيدون قوى الإنتاج الجديدة سوف يكسبون تلك المعركة، أو سيكسبها الفريق الآخر المؤيد للنظام القديم.
وفي الحالة الأولى، يتقدم المجتمع للأمام، وفي الحالة الأخرى يركد المجتمع أو يتخلف إلى الوراء.
الفصل الثالث:
الصراع الطبقي
نحن نعيش في مجتمع منقسم إلى طبقات، يحظى فيه قليل من الناس بثروات خاصة هائلة في حين لا يملك معظمنا شيئا يذكر. ونحن نميل بالطبع لافتراض أن الأمور كانت دائما على هذا النحو. لكن في الواقع، وفي الجزء الأعظم من تاريخ الإنسان، لم تكن هناك طبقات ولا ملكية خاصة ولا جيوش أو شرطة.
كان ذلك هو الوضع خلال نصف مليون سنة من تطور الإنسان حتى 5000 أو 10000 سنة مضت. لم يكن ممكنا أن ينقسم المجتمع إلى طبقات قبل أن يكون بوسع الفرد الواحد أن ينتج من الطعام ما يفوق حاجته التي تجعله قادرا على العمل.
فما جدوى الاحتفاظ بعبيد إذا كانوا يحتاجون لاستهلاك ما ينتجونه للبقاء على قيد الحياة؟
إلا أنه بعد حدّ معين، فإن تقدم الإنتاج جعل الانقسامات الطبقية غير ممكنة فحسب بل ضرورية أيضا.
فقد صار بالإمكان إنتاج طعام يكفي لترك فائض بعد حصول المنتجين المباشرين على ما يكفيهم للبقاء على قيد الحياة.
كما توفرت وسائل تخزين هذا الطعام ونقله من مكان لآخر.
كان من الممكن ببساطة أن يأكل أولئك الذين أنتج عملهم كل هذا الطعام فائض الطعام الإضافي.
وحيث أنهم كانوا يعيشون حياة هزيلة بائسة إلى حد كبير، فإن الإغراء كان كبيرا.
إلا أن ذلك كان من شأنه إبقائهم بلا حماية إزاء تقلبات الطبيعة التي قد تأتي بمجاعة أو فيضان في العام التالي، أو القدرة على مواجهة الهجمات من القبائل الجائعة من خارج المنطقة.
في البداية، كانت هناك مصلحة كبيرة للجميع في أن تتولى جماعة خاصة من الناس مسئولية هذه الثروة الإضافية بحيث يخزنونها تحسبا للكوارث المستقبلية، ويستخدمونها لدعم الحرفيين وبناء وسائل الدفاع، ومبادلة جزء منها مع أناس بعيدين مقابل أشياء مفيدة. بدأ القيام بتلك الأنشطة في المدن الأولى حيث عاش الإداريون والتجار والحرفيون. وبدأت الكتابة تتطور من خلال العلامات على الألواح المستخدمة لحفظ السجلات الخاصة بمختلف أنواع الثروة.
تلك كانت الخطوات المتعسّرة الأولى لما نسميه "الحضارة".
إلا أن ذلك كله كان قائما على السيطرة على الثروة المتزايدة بواسطة أقلية من السكان.
واستخدمت الأقلية الثروة لمصلحتها وكذلك لصالح المجتمع ككل.
كلما زاد الإنتاج تطورا كلما زادت الثروة التي تتركز في أيادي تلك الأقلية، وكلما زاد ما يتم استقطاعه من باقي المجتمع.
فالقواعد التي ظهرت كوسائل لإفادة المجتمع أصبحت "قوانين" وأصرت على أن الثروة والأرض التي أنتجتها كانت "الملكية الخاصة" للأقلية. لقد ظهرت الطبقات الحاكمة للوجود وكانت القوانين تدافع عن سلطاتها.
من الممكن أن تتساءل عما إذا كان ممكنا للمجتمع أن يتطور بشكل آخر بالنسبة لأولئك الذين كانوا يعملون في الأرض لكي يستطيعوا السيطرة على إنتاجهم؟
الإجابة هي لا، ليس بسبب "طبيعة الإنسان" لكن بسبب أن المجتمع كان لا يزال فقيرا للغاية.
كانت الغالبية من سكان الأرض مشغولة تماما في نبش التربة من أجل حياة هزيلة، فلم يكن هناك وقت لتطوير أنظمة القراءة والكتابة أو خلق أعمال فنية، أو بناء السفن للتجارة أو وضع خريطة لسير النجوم لاكتشاف مبادئ الرياضيات والاستعداد لوقت فيضان الأنهار، أو كيفية شقّ قنوات الري. هذه الأشياء كان يمكن لها أن تحدث فقط في حالة مصادرة بعضا من ضرورات الحياة من غالبية جمهور السكان واستخدامها للحفاظ على حياة أقلية متميزة والتي ليس عليها أن تشقى من شروق الشمس لغروبها.
على أية حال، إن هذا لا يعني أن الانقسام لطبقات ما زال ضروريا اليوم.
فلقد شهد القرن الماضي تطورا للإنتاج يفوق الخيال في تاريخ الإنسانية السابق كله.
لقد تم التغلب على الندرة الطبيعية - وما هو موجود الآن يعتبر ندرة مصطنعة تنتج بسبب أن الحكومات تدمر مخزون الغذاء.
إن المجتمع الطبقي اليوم يعود بالإنسانية للخلف ولا يقودها للأمام.
لم يكن هذا مجرد تغيرا أولياً من المجتمعات الزراعية النقية إلى مجتمعات المدن الصغيرة والكبيرة والتي أنتجت بالضرورة الانقسامات الطبقية الجديدة.
فنفس العملية كانت تُعاد كل مرة بظهور طرق جديدة لإنتاج الثروة.
وهكذا، ففي بريطانيا ومنذ آلاف السنين، تألفت الطبقة الحاكمة من البارونات الإقطاعيين الذين كانوا يسيطرون على الأرض ويعيشون على كواهل العبيد.
لكن بمجرد أن بدأت التجارة تتطور بشكل كبير هناك، بدأ في نفس الوقت نمو طبقة متميزة جديدة من التجار الأغنياء في المدن.
وعندما بدأت الصناعة تتطور على مستوى كبير، بدأ أصحاب المشروعات الصناعية ينافسوهم في قوتهم.
وفي كل مرحلة من تطور المجتمع، كانت هناك طبقة مضطَهَدة، ومن خلال قوة عملهم خُلقت الثروة ومعها طبقة حاكمة سيطرت على هذه الثروة.
لكن لأن المجتمع يتطور، فإن كل من المضطَهَدين والمضطَهِدين خضعوا للتغيير.
في المجتمع العبودي لروما القديمة، كان العبيد ملكية شخصية للطبقة الحاكمة.
كان مالك العبيد يملك السلع التي ينتجها العبد لأنه يملك العبد نفسه، بنفس الطريقة بالضبط التي كان يملك بها اللبن الذي تنتجه البقرة لأنه يملك البقرة.
في المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى، كان لدى الأقنان أراضيهم الخاصة بهم وكانوا يملكون ما ينتج منها.
لكن في مقابل حيازة تلك الأرض، كان عليهم أن يقوموا بعدد من الأعمال في أيام محددة خلال السنة في الأرض المملوكة من قِبل السيد الإقطاعي.
وبذلك، فإن وقتهم كان يتم تقسيمه - ربما نصف وقتهم كانوا يخصصونه للسيد ونصف الوقت الآخر لأنفسهم؛ وإذا رفضوا القيام بالعمل للسيد الإقطاعي فقد كان يستطيع معاقبتهم إما بالجلد أو السجن أو ما هو أسوأ من ذلك.
في المجتمع الرأسمالي الحديث، لا يملك المدير العامل جسديا ولا هو مخوّل بمعاقبته جسديا إذا ما رفض العامل أن يقوم بعمل غير مدفوع الأجر من أجله.
لكن المدير يملك المصانع حيث يضطر العامل أن يجد وظيفة لو أراد أن يبقى على قيد الحياة.
ولذلك، فمن السهل تماما بالنسبة للمدير أن يجبر العامل على أن يتحمل الأجر الذي يُدفع له وهو أقل بكثير من قيمة السلع التي يصنعها العامل في المصنع.
وفي كل حالة من تلك، تسيطر الطبقة المستغِلة على الثروة المتبقية بمجرد سدّ الاحتياجات الأساسية جدا للعمال.
كان مالك العبد يهدف إلى أن يُبقي ملكيته في حالة جيدة، ولذلك فهو يغذي عبده تماما بنفس الطريقة التي تزود سيارتك بالبنزين.
لكن كل شيء يفيض عن الحاجات المادية للعبد يستخدمها المالك لمتعته الخاصة.
أما بالنسبة لعبد الإقطاعي، فكان يُطعم نفسه ويوفر ملبسه من خلال العمل الذي يبذله في جزء الأرض الذي يملكه.
ولكن فيما يتعلق بالعمل الإضافي الذي يبذله في أرض السيد فإن ثماره تذهب إلى السيد.
أما العامل في العصر الحديث فيحصل على أجر. وكل الثروة الأخرى التي ينتجها تذهب للطبقة الحاكمة كربح أو فائدة أو إيجار.
الصراع الطبقي والدولة
نادرا ما يتقبل العمال نصيبهم من العمل بدون مقاومة أو صراع.
فلقد كان هناك ثورات للعبيد في مصر القديمة وروما وثورات فلاحية في الصين الإمبريالية، وحروب أهلية بين الأغنياء والفقراء في المدن اليونانية القديمة وروما وأوروبا في عصر النهضة. كان هذا هو سبب أن بدأ كارل ماركس منشوره البيان الشيوعي مؤكدا على:
"إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي." اعتمد نمو الحضارة على استغلال إحدى الطبقات لأخرى، وبالتالي على الصراع فيما بينهما.
فمهما وصلت قوة الفرعون المصري أو الإمبراطور الروماني أو أمير العصور الوسطى، ومهما بلغت الرفاهية التي كانوا يعيشون فيها، ومهما كانت روعة قصورهم، فإنهم كانوا لا يستطيعون فعل أي شيء إلا إذا ضمنوا أن المنتجات المتوفرة بواسطة الفلاحين البؤساء والعبيد تنتقل إلى ملكيتهم. وهم يستطيعون فعل ذلك فقط إذا كان هناك بجانب هذا الانقسام الطبقي نموا لشيء آخر - وهو السيطرة على وسائل العنف بأنفسهم وبواسطة مؤيديهم.
في المجتمعات المبكرة، لم يكن هناك جيش أو شرطة أو أجهزة حكومية منفصلة عن غالبية الناس. وحتى منذ 50 أو 60 سنة مضت - على سبيل المثال - كان لا يزال هناك في مناطق في أفريقيا إمكانية لوجود مجتمعات من هذا النوع. فالعديد من المهام التي تقوم بها الدولة في مجتمعنا كانت تتم ببساطة وبشكل غير رسمي بواسطة جميع السكان أو من خلال اجتماعات لممثلين من بينهم.
كانت تلك الاجتماعات تقيّم سلوك أي فرد إذا ما كسر قاعدة اجتماعية هامة، وكانت العقوبة تطبق بواسطة المجتمع ككل.
فعلى سبيل المثال، ربما يكون الحكم أن يُجبر المخطئين على الرحيل.
وبما أن كل الأفراد قد وافقوا على العقوبة اللازمة، لم يكن هناك احتياج لوجود قوات شرطة منفصلة لتنفيذ العقوبات.
|