كتاب الماركسية....الجزء التالت.
ولقد استطاع الإنسان قتل الوحوش فقط من خلال الجهود المشتركة لعدد من الأشخاص، وينطبق ذلك على جمع الطعام وإشعال النار.
كان على البشر أن يتعاونوا.
ساعد هذا التعاون المستمر على أن يبدأ البشر في التفاعل بواسطة نطق أصوات معينة ثم بعد ذلك تكوين اللغة. في البداية، كانت المجموعات الاجتماعية بسيطة.
فلم يكن هناك إنتاج من الطبيعة يكفي لإبقاء مجموعات كبيرة من البشر على قيد الحياة وبصحة جيدة، ربما فقط بعض الأعداد البسيطة.
وكان المجهود الأعظم ينفق في المهام الأساسية لإنتاج الطعام؛ ولذلك، فلقد قام الجميع بنفس العمل وعاشوا نفس نوعية الحياة.
وبدون وجود أية وسائل لتخزين الطعام، لم تكن هناك ملكية خاصة أو انقسامات طبقية. ولم تكن هناك أيضا أية غنائم توجِد دافعا للحرب.
وحتى بضعة سنوات قليلة مضت، كانت ما تزال هناك المئات من المجتمعات في أنحاء متفرقة من العالم تعيش بنفس ذلك النمط - مثلا بين بعض قبائل الهنود في شمال وجنوب أمريكا، وبعض سكان أفريقيا والمحيط الهادي، وأيضا بين الأروميين في أستراليا.
وليس تفسير ذلك أن هؤلاء البشر أقل منا ذكاء أو أن"عقليتهم بدائية".
فسكان أستراليا الأصليين - الأروميين - كان عليهم أن يتعلموا كيفية التعرف على الآلاف من النباتات وعادات أنواع كثيرة من الحيوانات المتنوعة حتى يستطيعوا البقاء على قيد الحياة.
ولقد وصف عالم الأنثروبولوجيا فيرث ذلك بقوله:
"إن سكان قبائل أستراليا …
يعرفون عادات وعلامات واختلاف الفصول عند الحيوانات التي تؤكل وطرق تربيتها بالإضافة إلى معرفتهم بالأسماك والطيور التي يصطادونها. وهم يعرفون أيضا الخصائص الخارجية وبعض تلك الداخلية للصخور والأحجار والشمع والصمغ والنباتات والأنسجة ولحاء الأشجار؛ ويعرفون كيف يشعلون النار؛ ويعرفون كيفية استخدام الحرارة لتخفيف الألم ووقف النزيف وتأخير تعفن الطعام الطازج؛ كما أنهم يستخدمون النار والحرارة لتشكيل بعض الأخشاب وجعلها صلبة وتليين بعضها الآخر…
وهم يعرفون أيضا شيئا ما عن تعاقب فترات القمر، وحركة المد والجزر، ودوران الكواكب، وتعاقب مواعيد الفصول.
لقد استطاعوا أن يتعرفوا على تغيرات المناخ ونظم الرياح، والخصائص السنوية للرطوبة والحرارة، وتدفق النمو عند الأحياء الطبيعية …
بالإضافة إلى ذلك، فإنهم يستخدمون نتاج الحيوانات التي يقتلونها من أجل الطعام بشكل ذكي واقتصادي، فهم يأكلون جلد الكنغرو ويستخدمون عظام الأرجل في صناعة الآلات الحجرية وكمسامير، ويستخدمون الأعصاب في ربط الرماح، والمخالب في صناعة الأساور بالشمع والأنسجة، ثم يخلطون الدهون بالغراء الأحمر لعمل المساحيق، ويخلطون الدم بالفحم النباتي لعمل الدهانات …
ولديهم أيضا بعض المعرفة بمبادئ الميكانيكا، ويصنعون البمرنغ أو قطع الخشب الملوية المعقوفة التي يبرمونها مرة بعد الأخرى لتأخذ التقويس المضبوط."
لقد كانوا "أمهر" منا كثيرا في التعامل مع مشاكل البقاء في الصحراء الأسترالية.
وما لم يتعلموه هو كيفية زرع البذور لينتجوا طعامهم بأنفسهم - وهو شيء تعلمه أجدادنا منذ حوالي 5000 سنة فقط بعد أن مكثوا على وجه الأرض أضعاف تلك السنوات بمئات المرات.
إن تطور تقنيات جديدة لإنتاج الثروة - أي وسائل معيشة الإنسان - قد خلقت أشكال جديدة من التعاون بين البشر، أو علاقات اجتماعية جديدة.
فعلى سبيل المثال، عندما تعلم البشر في البداية زراعة طعامهم (بواسطة زراعة البذور وتربية الحيوان) وتخزينه (في أوانٍ من الطين)، اعتُبر ذلك ثورة كاملة في الحياة الاجتماعية - أطلق عليها بواسطة علماء الحفريات "ثورة العصر الحجري." كان على البشر أن يتعاونوا مع بعضهم البعض لكي يحرثوا الأرض ويحصدوا الطعام، وأيضا ليصطادوا الحيوانات. وهكذا، أصبح بإمكانهم أن يعيشوا مع بعض بأعداد كبيرة عن ذي قبل وأن يخزنوا طعامهم وأن يبدءوا في مبادلة بضائعهم مع مجموعات أخرى من البشر.
وهكذا، كان في الاستطاعة أن تنمو المدن الأولى. فللمرة الأولى، توفرت إمكانية أن يعيش بعض الناس حياة خالية من عبء إنتاج الطعام فقط:
فالبعض أصبح يمكنه التخصص في صناعة الأواني، والبعض الآخر في صناعة صوان المعادن وبعد ذلك المعادن التي أنتجت الآلات والأسلحة، كما تخصص البعض الآخر في مهام إدارية أولية لإدارة شئون المستوطنة ككل.
والأهم من ذلك كله أن فائض الطعام خلق دافعا للحرب.
بدأ البشر اكتشاف طرق جديدة للتعامل مع العالم المحيط بهم، أو تطويع الطبيعة لخدمة احتياجاتهم. ولكن في خلال هذه العملية، وبدون قصد، فقد طوّروا المجتمع الذي عاشوا فيه، وبالتالي حياتهم هم أيضا. لخّص ماركس تلك العملية بقوله أن تطوير "عوامل الإنتاج" قد غيرت "علاقات الإنتاج"، ومن خلال ذلك المجتمع ككل.
وهناك الكثير من الأمثلة الحديثة.
منذ 300 سنة مضت، عاش غالبية السكان في هذا البلد على نتاج الأرض، حيث كانوا ينتجون الطعام بواسطة آلات لم تتطور كثيرا على مدار قرون عدة.
وبالتالي، كانت آفاق تفكيرهم محددة بحدود قريتهم ومفاهيمهم متأثرة إلى حد كبير بالكنيسة.
فالغالبية العظمى لم تكن في حاجة للقراءة أو الكتابة ولم يتعلموهما أبدا.
ثم منذ 200 سنة، بدأت الصناعة في التطور.
فلقد جيء بعشرات الآلاف من البشر للعمل في المصانع. وهكذا، حدث تحول هائل في حياتهم.
فالآن، عاش هؤلاء الأفراد في المدن الكبيرة وليس في القرى الصغيرة.
واحتاجوا إلى أن يتعلموا عدد من المهارات لم يكن ليحلم بها أجدادهم من قبلهم، بما في ذلك تعلم القراءة والكتابة.
كما ساعد بناء السكك الحديدية والبواخر على إمكانية السفر حول نصف الكرة الأرضية.
ولم تعد الأفكار القديمة التي تعلموها من القساوسة تناسبهم على الإطلاق في ظل ذلك التطور .
فالثورة المادية في الإنتاج شكلت أيضا ثورة في أسلوب حياتهم والأفكار التي آمنوا بها.
والآن، ما زال هناك مثل تلك التغيرات التي تؤثر على حياة الكثير من البشر. أنظر مثلا إلى الطريقة التي يُحضر بها أفراد من قرى بنجلاديش أو تركيا إلى المصانع في إنجلترا أو ألمانيا من أجل العمل.
أنظر إلى كيف أن الكثير منهم يجدون أن عاداتهم القديمة واتجاهاتهم الدينية لم تعد تناسبهم.
أو أنظر إلى الـ50 سنة الماضية والطريقة التي تعودت عليها النساء في العمل خارج المنزل وكيف أن هذا التغير قد ساعدهن على مناهضة الأفكار القديمة التي جعلتهن ملكاً لأزواجهن.
فالتغيرات التي تطرأ على عمل البشر مع بعضهم البعض لإنتاج الطعام والملبس والمسكن الذي يحتويهم تؤدي إلى تغيرات في الطريقة التي ينتظم بها المجتمع واتجاهات الناس فيه.
إن هذا هو سر التغير الاجتماعي - تغير التاريخ - والذي لم يفهمه الكثير من المفكرين قبل ماركس (والكثيرين أيضا منذ ظهور نظريته) مثل الطوباويين والماديين الميكانيكيين.
|