مروان
خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة التمر وسلال القش الكبيرة.. لم تكن له أية فكرة محددة عن وجهته الجديدة.. فهناك، داخل الدكان، تقطعت آخر خيوط الأمل التي شدت، لسنوات طويلة، كل شيء في داخله.. كانت الكلمات الأخيرة التي لفظها الرجل السمين حاسمة ونهائية، بل خيل إليه أنها كانت مصبوبة من رصاص:
- خمسة عشر ديناراً.. ألا تسمع؟
- ولكن..
- أرجوك ! أرجوك ! لا تبدأ بالنواح ! كلكم تأتون إلى هنا ثم تبدأون بالنواح كالأرامل !.. يا أخي، يا روحي لا أحد يجبرك على الالتصاق هنا، لماذا لا تذهب وتسأل غيري، البصرة مليئة بالمهربين !
طبعاً سيذهب ويسأل غيره، لقد قال له حسن. الذي اشتغل في الكويت أربع سنين . أن تهريب الفرد الواحد من البصرة إلى الكويت يكلف خمسة دنانير فقط لا غير، وأنه يجب أن يكون - حين يمثل أمام المهرب - أكبر من رجل وأكثر من شجاع وإلا ضحك عليه وخدعه واشتغل سنيه الست عشرة وجعل منه ألعوبة.
- قالوا إن سعر الواحد خمسة دنانير.
- خمسة دنانير؟ ها ها ها! كان ذلك قبل أن تزف حواء إلى آدم.. يا بني، استدر، واخط ثلاث خطوات، وستجد نفسك في الطريق غير مطرود !
جمع شجاعته كلها وحشدها في لسانه، كل ما تبقي في جيبه لا يزيد عن السبعة دنانير، ولقد كان يحسب قبل هنيهة أنه غني.. أما الآن.. أتراه يستصغره؟
- سوف تأخذ مني خمسة دناينر وأنت مبسوط .. وإلا..
- وإلا ماذا؟
- وإلا فضحتك في مخفر الشرطة !
قام الرجل السمين ودار حول مكتبه ثم وقف أمامه وهو يلهث ويتصبب عرقاً..
حدق فيه هنيهة قاسه فيها من رأسه حتى قدميه ثم رفع يده الثقيله في الهواء..
- تريد أن تشكوني إلى الشركة يا ابن الـ...
وهوت اليد الثقيلة فوق خده ، فضاعت الكلمة في طنين شيطاني أخذ يدور بين أذنيه .. لم يستطع أن يحتفظ بتوازنه للحظة فخطا إلى الوراء خطوتين صغيرتين ، ووصله صوت الرجل السمين مبحوحا بالغضب :
- اذهب وقل للقواويد أنني ضربتك .. تشكوني للشرطة ؟
تحفز في مكانه لبرهة وجيزة ، ولكنها كانت كافية ليكتشف فيها عبث أية محاولة يقوم بها لترميم كرامته ، بل إنه أحس . حتى عظامه ، بأنه قد أخطأ خطأ لا يغتفر ، فأخذ يمضغ ذله وعلامات الأصابع فوق خده الأيسر تلتهب ..
- ماذا تراك تنتظر هنا ؟
دار على عقبيه ، واجتاز الباب إلى الخارج فصفعت أنفه روائح التمر وسلال القش الكبيرة .. تراه ماذا سيفعل الآن ؟ لم يكن يريد أن يسأل السؤال لنفسه
قط.. ولكنه ليس يدري لماذا كان يحس بنوع من الارتياح.. ترى ما السبب في ذلك ؟ لقد أحب أن يشغل نفسه بالتقصي عن السبب.. ثمة شعور يملأ جانبا من ، رأسه ويوحي له بالارتياح والسعادة، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفصله عن كل الأحداث المؤسية التي احتشدت في صدره خلال نصف الساعة الماضي.. وحين انتهت كل محاولاته إلى الفشل اتكأ على الحائط.. كانت جموع الناس تعبر حواليه دون أن تلتفت إليه، ربما يحدث هذا للمرة الأولى في حياته: أن يكون منفردا وغريبا في مثل هذا الحشد من البشر.. ولكنه كان يريد أن يعرف سبب ذلك الشعور البعيد الذي يوحي له الاكتفاء والارتياح، شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد أن ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي فيحس بأن الحياة كبيرة وواسعة وأنه سوف يكون في المستقبل واحداً من أولئك الذين يصرفون حياتهم لحظة إثر لحظة وساعة أثر ساعة بامتلاء وتنوع مثيرين.. ولكن ما السبب في كونه يحس الآن مثل ذلك الشعور رغم أنه لم يشاهد منذ زمن بعيد لما من ذلك النوع، ورغم أن خيوط الأمل التي نسجت في صدره أحلاما كباراً قد تقطعت، قبيل لحظات، داخل دكان الرجل السمين؟
لا فائدة.. يبدو أنه لن يستطيع اختراق الحجاب الكثيف من خيبة الأمل الذي ارتفع دونه ودون ذلك الشعور الملتف على نفسه في مكان ما من رأسه.. وقرر، فيما بعد، أن لا يرهق رأسه قط.. وأن يشغل نفسه بالمسير.. ولكنه ما أن ترك جدار وبدأ يمشي في الزحام حتى شعر بيد تربت على كتفه..
لا تيأس إلى هذا الحد.. إلى أين ستذهب الآن؟
كان الرجل الطويل قد بدأ يسير إلى جانبه بألفة، وحين نظر إليه خيل له أنه قد شاهده في مكان ما من قبل، ولكنه رغم ذلك، ابتعد عنه خطوة وصب فوق وجهه عينين متسائلتين، فقال الرجل:
- إنه لص شهير.. ما الذي قادك إليه ؟
أجاب بعد تردد قصير:
- كلهم يأتون إليه..
اقترب الرجل منه وشبك ذراعه بذراعه كأنه يعرفه منذ زمن بعيد:
- أتريد أن تسافر إلى الكويت؟
- كيف عرفت؟
- لقد كنت واقفاً إلى جانب باب تلك الدكان، وشهدتك تدخل ثم شهدتك تخرج.. ما اسمك؟
- مروان.. وأنت؟
- إنهم ينادونني " أبو الخيزران ".
لأول مرة منذ رآه لاحظ الآن أن منظره يوحي حقا بالخيزران، فهو رجل طويل القامة جدا، نحيل جداً، ولكن عنقه وكفيه تعطي الشعور بالقوة والمتانة وكان يبدو لسبب ما، أنه بوسعه أن يقوس نفسه، فيضع رأسه بين قدميه دون أن يسبب ذلك أي إزعاج لعموده الفقري أو بقية عظامه.
- حسناً، ماذا تريد مني؟
- تجاهل أبو الخيزران السؤال بسؤال من عنده
- لماذا تريد أن تسافر إلى الكويت؟
- أريد أن أشتغل.. أنت تعرف كيف تجري الأمور هنالك. منذ شهور طويلة.
وأنا ..
صمت فجأة ووقف.
الآن، فقط، عرف منشأ ذلك الشعور بالارتياح والاكتفاء الذي لم يكن بوسعه، قبل دقائق، أن يكتشفه.. إنه ينفتح أمام عينيه بكل اتساعه وصفائه، بل إنه هدم، بشكل رائع، كل سدود الكآبة التي حالت بينه وبين معرفته.. وها هو الآن يتملكه من جديد بسطوة لا مثيل لها قيد.. كان أول شيء فعله ذلك الصباح الباكر هو كتابة رسالة طويلة إلى أمه.. وإنه يشعر الآن بمزيد من الارتياح لأنه كتب تلك الرسالة قبل أن تخيب آماله كلها في دكان الرجل السمين فيضيع صفاء الفرح الذي صبه في تلك الرسالة.. لقد كان بديعا أن يعيش بعض ساعة مع أمه.
نهض باكرا جدا ذلك الصباح.. كان الخادم قد رفع السرير إلى سطح الفندق لأن النوم داخل الغرفة في مثل ذلك القيظ وتلك الرطوبة أمر مستحيل.. وحينما أشرقت الشمس فتح عينيه " كان الجو رائعاً وهادئاً وكانت السماء ما زالت تبدو زرقاء تحوم فيها حمامات سود على علو منخفض ويسمع رفيف أجنحتها كلما اقتربت - في دورتها الواسعة - من سماء الفندق.. كائن الصمت مطبقا بكثافة، والجو يعبق برائحة رطوبة مبكرة صافية...مد يده إلى حقيبته الصغيرة الموضوعة تحت السرير فأخرج دفتراً وقلماً ومضى يكتب رسالة إلى أمه وهو مستلق هناك.
كان ذلك أحسن ما فعله خلال شهور، لم يكن مجبرا على فعله، ولكنه كان يريد ذلك بملء رغبته وإرادته.. كان مزاجه رائقاً، وكانت الرسالة تشبه صفاء تلك السماء فوقه.. ليس يدري كيف أجاز لنفسه أن يصف أباه بأنه مجرد كلب منحط ولكنه لم يشأ أن يشطب ذلك بعد أن كتبه، لم يكن يريد أن يشطب أي كلمة في الرسالة كلها.. ليس لأن أمه تتشاءم من الكلمات المشطوبة فقط، بل لأنه كان لا يريد ذلك أيضا، وببساطة.
ولكنه - على أي حال- لا يحقد على أبيه إلى ذلك الحد.. صحيح أن أباه قام بعمل كريه، ولكن من منا لا يفعل ذلك بين الفينة والأخرى؟ إنه يستطيع أن يفهم بالضبط ظروف والده، وبوسعه أن يغفر له.. ولكن هل بوسع والده أن يغفر لنفسه تلك الجريمة؟
" أن يترك أربعة أطفال. أن يطلقك أنت بلا أي سبب، ثم يتزوج من تلك المرأة الشوهاء.. هذا أمر لن يغفره لنفسه حين يصحو، ذات يوم، ويكتشف ما فعل. أنني لا أريد أن أكره أحداً، ليس بوسعي أن أفعل ذلك حتى لو أردت.. ولكن لماذا فعل ذلك، معك أنت؟ أنا أعرف أنك لا تحبين لأحد منا أن يحكي عنه، أعرف.. ولكن لماذا تعتقدين أنه فمل ذلك؟
لقد مضى كل شيء الآن وراح ولا أمل لنا بأن نستعيده مرة أخرى.. ولكن لماذا فعل ذلك؟ دعينا نسأل، لماذا؟
أنا سوف أقول لك لماذا.. منذ أن انقطعت عنا أخبار أخي زكريا اختلف الوضع
نهائيا.. كان زكريا يرسل لنا من الكويت، كل شهر حوالي مئتي روبية.. كان هذا المبلغ يحقق لأبي بعض الاستقرار الذي يحلم به.. ولكن حين انقطعت أخبار زكريا. نرجو أن يكون ذلك خيراً
- ماذا تعتقدين أنه فكر؟
لقد قال لنفسه. بل قال لنا كلنا. إن الحياة أمر عجيب.. وإن الرجل يريد أن يستقر في ، شيخوخته لا أن يجد نفسه مجبرا على إطعام نصف دزينة من الأفواه المفتوحة.. ألم يقل ذلك؟ زكريا راح.. زكريا، ضاعت أخباره، من الذي سيطعم الأفواه؟ من الذي سيكمل تعليم مروان ويشتري ملابس مي ويحمل خبزاً لرياض وسلمى وحسن؟ من؟
إنه رجل معدم، أنت تعرفين ذلك.. لقد كان طموحه كله.. كل طموحه، هو أن يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم منذ عشر سنوات ويسكن تحت سقف من إسمنت، كما كان يقول.. الآن، زكريا راح.. آماله كلها تهاوت.. أحلامه انهارت.. مطامحه ذابت.. فماذا تعتقدين أنه سيفعل؟
لقد عرض عليه صديقه القديم والد شقيقة أن يتزوجها.. قال له أنها تمتلك بيتا من ثلاث غرف في طرف البلد، دفعت ثمنه من تلك النقود التي جمعتها لها منظمة خيرية.. وأبو شفيقة يريد شيئا واحدا: أن يلقي حمل ابنته. التي فقدت ساقها اليمنى أثناء قصف يافا - على كاهل زوج ! إنه على عتبة قبره ويريد أن يهبطه مطمئناً على مصير ابنته التي رفضها الجميع بسبب تلك الساق المبتورة من أعلى الفخذ.. لقد فكر والدي بالأمر: لو أجر غرفتين وسكن مع زوجته الكسحاء في الثالثة إذن لعاش ما تبقي له من الحياة مستقرا غير ملاحق بأيما شيء.. وأهم من ذلك.. تحت سقف من إسمنت.. ".
- أتريد أن تبقي واقفا هنا إلى الأبد؟
نفض رأسه وسار.. كان " أبو الخيزران " ينظر إليه من طرف حدقيته، وخيل إليه أنه على وشك أن يبتسم ساخراً.
- ما بالك تفكر بهذا الشكل؟ أن التفكير غير ملائم لك يا مروان، ما زلت صغير السن.. والحياة طويلة..
وقف مرة أخرى وألقى برأسه إلى الوراء قليلا:
- والآن .. ماذا تريد مني؟.
واصل " أبو الخيزران " المسير فلحق به من جديد:
- أستطيع أن أهربك إلى الكويت.
- كيف ؟
- هذا شأني أنا. أنت تريد أن تذهب إلى الكويت أليس كذلك؟ ها هو ذا إنسان بوسعه أن يأخذك إلى هناك.. ماذا تريد غير ذلك؟
- كم ستأخذ مني ؟
هذا ليس مهما في الواقع ...
- إنه المهم .
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فانشقت شفتاه عن صفين من الأسنان الكبيرة الناصعة البياض ثم قال:
- سأخبرك الأمر بكل صراحة.. أنا رجل مضطر للذهاب إلى الكويت، قلت لنفسي : لا بأس من أن أرتزق فأحمل معي بعض من يريد أن يذهب إلى هناك .. كم بوسعك أن تدفع؟
- خمسة دنانير..
- فقط ؟
- لا أملك غيرها.
- حسناً، سأقبلها..
وضع أبو الخيزران يديه في جيبه ومضى يسير بخطوات واسعة حتى أوشك مروان أن يضيعه، فاضطر إلى اللحاق به مسرعاً، إلا أن أبا الخيزران وقف فجأة وهز أصبعه أمام فمه:
-.. ولكن ! لا تقل ذلك لأي إنسان.. أعني إذا طلبت من رجل آخر عشرة دنانير فلا تقل له إنني أخذت منك خمسة فقط..
- ولكن كيف تريدني أن أثق بك؟
فكر أبو الخيزران قليلا ثم عاد فابتسم تلك الابتسامة الواسعة وقال:
- معك حق ! ستعطيني النقود في ساحة الصفاة في الكويت.. في العاصمة في منتصف العاصمة، مبسوط؟
- موافق !
- ولكننا سنحتاج إلى عدد آخر من المسافرين.. وعليك أن تساعدني، هذا شرط.
- إنني أعرف واحدا ينزل معي في الفندق ويرغب في السفر.
- هذا رائع، أنا أعرف واحداً آخر.. إنه من بلدتي في فلسطين أيام زمان قابلته صدفة هنا.. ولكنني لم أسألك.. ماذا تريد أن تفعل في الكويت.. هل تعرف أحدا؟
وقف مرة أخرى، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فعاد يخب إلى جانبه..
- إن أخي يعمل هناك.
هز أبو الخيزران رأسه فيما كان يسير متعجلا ثم رفع كتفيه فغاصت عنقه وبدأ أقصر من ذي قبل..
- وإذا كان أخوك يشتغل هناك.. فلماذا تريد أنت أن تشتغل؟ الذين في سنك ما زالوا في المدارس !..
- لقد كنت في المدرسة قبل شهرين، ولكنني أريد أن أشتغل الآن كي أعيل عائلتي ...
وقف أبو الخيزران ثم رفع كفيه من جيبه وثبتهما على خصريه وأخذ يحدق إليه ضاحكاً:
- ها ! لقد فهمت الآن.. أخوك لم يعد يرسل لكم نقوداً، أليس كذلك؟
هز مروان رأسه وحاول أن يسير، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فأوقفه..
- لماذا؟ هل تزوج ؟
حدق مروان إلى أبي الخيزران مشدوها ثم همس:
- كيف عرفت؟
- ها ، الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق، كلهم يكفون عن إرسال النقود إلى عائلاتهم حين يتزوجون أو يعشقون..
أحس مروان بخيبة أمل صغيرة تنمو في صدره، لا لأنه فوجئ، بل لأنه اكتشفت أن الأمر شائع ومعروف، لقد كان يحسب أنه يخنق صدره على سر كبير لا يعرفه غيره: حجبه عن أمه وأبيه طوال شهور وشهور.. وها هو الآن يبدو على لسان أبي الخيزران كأنه قاعدة معروفة وبديهية:
- ولكن.. لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يتنكرون لـ...
صمت فجأة، كان أبو الخيزران قد بدأ يضحك:
- أنا مبسوط أنك ستذهب إلى الكويت لأنك ستتعلم هناك أشياء عديدة.. أول شيء ستتعلمه. هو أن: القرش يأتي أولا، ثم الأخلاق.
حين تركه أبو الخيزران على أمل لقاء بعد الظهر كان قد فقد. من جديد. كل تلك المشاعر الرائعة التي كانت تغسله، من الداخل، طوال الصباح.. بل أنه استغرب كيف تكون تلك الرسالة التي كتبها لأمه قد أعطته الشعور الرائق الذي جعل خيبة أمله تبدو أقل قيمة مما هي في الواقع.. رسالة سخيفة كتبها تحت وطأة الشعور بالوحدة والأمل على سطح فندق حقير مرمي في طرف الكون.. ما هو الخارق في الأمر؟ أيحسب أن أمه لا تعرف القصة كلها؟ ماذا كان يريد أن يقول ؟ أكان يريد أن يقنعها بأن هجران زوجها لها ولأولادها أمر رائع وطبيعي؟ إذن لماذا كل تلك الثرثرة؟ أنه يحب والده حبا خارقا لا يتزعزع.. ولكن هذا لا يغير شيئا من الحقيقة الراعبة.. الحقيقة التي تقول أن أباه قد هرب.. هرب.. هرب.. تماما كما فعل زكريا الذي تزوج وأرسل له رسالة صغيرة قال له فيها أن دوره قد أتى، وأن عليه أن يترك تلك المدرسة السخيفة التي لا تعلم شيئا وأن يغوص في المقلاة مع من غاص..
كل عمره كان على طرفي نقيض مع زكريا.. بل إنهما كانا. في الواقع. يكرهان بعضهما.. زكريا لم يكن يستطيع أن يفهم قط لماذا يتوجب عليه أن يصرف على العائلة طوال عشر سنوات بينما يروح مروان ويجيء إلى المدرسة مثل الأطفال.. وكان هو يريد أن يصبح طبيباً.. كان يقول لأمه إن زكريا لن يفهم قط معنى أن يتعلم الإنسان لأنه ترك المدرسة حين ترك فلسطين وغاص، منذ. ذاك، في المقلاة، كما يحب أن يقول.
وها هو الآن قد تزوج دون أن يقول ذلك لأحد غيره، كأنه كان يريد أن يضعه أمام ضميره وجها لوجه.. ولكن ماذا ترك له ليختار؟ لا شيء سوى أن يترك المدرسة ويعمل، يغوص في المقلاة من هنا وإلى الأبد !
لا بأس ! لا بأس.. أيام قليلة ويصل إلى الكويت.. إذا ساعده زكريا كان ذلك أفضل، إذا تجاهله فلسوف يعرف كيف يهتدي إلى أول الطريق كما اهتدى الكثيرون.. ولسوف يرسل كل قرش يحصله إلى أمه، سوف يغرقها ويغرق إخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة إلهية.. ويجعل أباه يأكل أصابعه ندماً !
ورغم ذلك، فإنه لا يكره أباه إلى هذا الحد، لسبب بسيط هو أن أباه ما زال يحبهم جميعاً.. لقد تأكد من ذلك تماما حين ذهب إليه يودعه قبل أن يسافر، لم يقل لأمه أنه سيذهب إلى بيت شفيقة وإلا لكانت جنت.. قال له أبوه هناك:
- أنت تعرف يا مروان بأن لا يد لي في الأمر، هذا شيء مكتوب لنا منذ بدء الخليقة.
قالت شفيقة:
- قلنا لأمك أن تأتي وتسكن هنا لكنها لم تقبل.. ماذا تريدنا أن نفعل أكثر من ذلك؟
كانت جالسة فوق بساط من جلد ماعز، وكان العكاز ملقى إلى حانبها، وفكر
هو: ترى أين ينتهي فخذها؟ " كان وجهها جميلا ولكنه حاد الملامح مثل وجوه كل أولئك المرضى الذين لا يرجى لهم الشفاء، وكانت شفتها السفلى مقوسة كأنها على وشك أن تبكي..
قال أبوه:
- خذ ، هذه عشرة دنانير.. قد تنفعك.. واكتب لنا دائما.
حين قام رفعت شفيقة ذراعيها في الهواء ودعت له بالتوفيق، كان صوتهـا فاجعا وحين التفت إليها قبل أن يجتاز الباب بدأت تشهق بالبكاء. وقال له أبوه:
- وفقك الله يا مروان يا سبع.
وحاول أن يضحك إلا أنه لم يستطع فأخذ يربت بكفه الكبيرة الخشنة على ظهره بينما تناولت شفيقة عكازها واستوت واقفة بحركة سريعة، كانت قد كفت عن البكاء.
صفق الباب وراءه وسار. كان ما زال يسمع صوت عكاز شفيقة يقرع البلاط برتابة، وعند المنعطف تلاشى الصوت.
أبو مـــــــــ1984ـــــــارال
خبز,, سلم,, حرّية
- ابو شريك هاي الروابط الي
بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف
الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة
سوريا -
|