بدايـة الحيـاة الروحيـة
"ها أنذا واقف على الباب أقرع من يسمع صوتي ويفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي"
المسيحية ليست مسألة فردية أو حوار مع الذات. تفترض الحياة المسيحية قبل كل شيء أن الله هو المبادر إلينا ونحن الأحرار بقبول حضوره أو التغاضي عنه. لذلك الحياة الروحية هبة إلهية نقبلها منه أو نرفضها. هذه المبادرة والكشف الإلهي ليس أحداثاً عبر تاريخ الخلاص فقط، إنما حركة بين الله وكل نفس بشرية أيضاً داخلية.
هكذا "يخرج" الله إلينا، كما يذكر مثل الزارع، ويبذر فينا زرع الحياة الروحية، وهذا يستدعينا أن نخرج نحن أيضاً منن انطوائيتنا ونجيب على الدعوة الإلهية. إنه واقف على الباب يقرع فمن يفتح! هذا هو دور الإنسان تماماً، أن ينفتح على العطاء الروحي الإلهي. حينها تتحقق خبرات لقاء شخصي بين الله والإنسان في داخله. إن الله لا يتخفّى بل يكشف ذاته للجميع، إلا أننا نحن من يُعرض عنه، يقول القديس سمعان اللاهوتي.
إن دعوة الله هذه لنا هي "رقيقة، فهو يقف على الباب خارج يقرع منتظراً من يسمع. هكذا كان يتكلم بأمثال سامحاً بذلك لمن يشاء أن يتجاهل بأنه فهم أن يتجاهل، كان يردد من له أذنان للسمع فليسمع، أي من يريد أن يفتح أذنيه فليسمع!
تتعلق إذن الحياة الروحية المسيحية عملياً بمقدار "قبول الإنسان واستعداده. إن الله يمطر على الأشرار والأبرار، لكن كلٌّ منهم يأخذ بمقدار رغبته وإرادته. يصرخ القديس اسحق السرياني "هدّئ عني أمواج نعمتك"! حين فتح هذا الناسك مصراعي بابه لم يتحمل غنى فيض النعمة والعناية الإلهية. إن الله يريد أن يسكب أمواج نعمته بفيض لو تقبّل الناس ذلك!
لكن حرية الإنسان دائماً مترددة بين نعمة الله وبين غواية الشيطان والعالم. لهذا كان المسيحيون في اجتماعهم الليتورجي يصرخون "ليذهب العالم ولتأتِ النعمة".
يفتح الإنسان نفسه أمام النعمة الإلهية حين يُعرض عن غوايات الشيطان وخدعة العالم ويرفع أشواقه إلى العشق الإلهي الحقيقي. وهذه الالتفاتة عن جهة نحو الأخرى ليست أمراً سهلاً، لأن الإنسان مشترك في أشواقه وحاجاته مع العالم أيضاً، وأشواقه هذه مرات عديدة قد أفسدتها وشاية الشيطان والعالم الهابط المحيط به. "إن قطع الرغبات أصعب من قطع الأعضاء" يقول الأدب الرهباني النسكي. الأشواق تملك قدرة على الإرادة لا يسهل قطعها إلا بسيف الإيمان وباستبدال شوق بشوق. هكذا الراهب يهجر العالم (العالميات) ليس ليعيش حياة "حرمانات" بل هي ممارسة فضائل. إنها قضية خيار ومعرفة فيما نريد أن نرجّح في حياتنا! هكذا لم يكن الابن الضال، عندما عاد إلى أبيه، في وضع قد حرم فيه ذاته من طيبات الدنيا وخرنوبها، على العكس كان فرحاً لأنه أدرك أن بيت أبيه أجمل من رعاية الخنازير. لقد قال في قرار نفسه "كم في بيت أبي من عبيد يفضل عنهم الخبز وأنا أهلك جوعاً". "إذن أقوم وأذهب إلى أبي" (لوقا 15، 17-20). حين تختار الحرية البشرية الإرادة الإلهية تحوّل الإنسان من مدعوّ إلى مختار، كما يقول القديس كيرللس.
هذه الحركة أو الالتفاتة، كإعراض عن غواية الدنيا ورفع القلب لسماع صوته على الباب يقرع، فيها شيء من الألم ظاهرياً ولكنها تحوي على الكثير من التعزية الداخلية بالنهاية. لأن الدعوة الإلهية تتطابق والعطش البشري الحقيقي على عكس أكذوبة رغبات الدنيا.
"النسك"، هو فن هذه الحركة. يوقظ النسك الإنسان ويضع حريته في الانتباه كل لحظة. فيلتصق الإنسان بكل ما هو طاهر، بالأحرى يتناول العالم بعفة الروح.
ليس النسك كلمة قاسية غريبة تختص بالرهبان، وإن كان هؤلاء يتفرّغون لها ويصبحون قدوةً فيها. النسك هو "تطهير"الرغبات. لذلك ليست الصلاة ولا الأصوام والأسهار هي الغاية، إنما هي الغنى. الغاية هي طهارة القلب. لأن أنقياء القلوب يعاينون الله. وهذه الفنون لها أشكال عديدة ترتبط بطبيعة حياة الإنسان وبيئته.
ليست طهارة القلب إلا "الخروج" نحو الله بدل الانغلاق على الذات لإشباعها. طهارة القلب هي بكلمة مختصرة "المحبة". وهذه تربّيها فينا الصلاة والأصوام والأسهار.
النسك إذن هو حركة وضع الأشواق الإنسانية في إطارها الذي تستحقه، إنه حركة لوضع الحرية البشرية في رعاية الإرادة الإلهية.
لكن هذه الحركة، والترّفع عن الغوايات ورفع القلب إلى الله لا ينجح كل لحظة، وخاصة عند المبتدئين. لذلك الخطيئة الأساسية في المسيحية هي "الكسل"، أي أن نتوقف عن الصعود. "اصعدوا يا أخوة اصعدوا"، بهذه الكلمات يختم القديس يوحنا السلمي كتابه.
هكذا، تبدأ الحياة الروحية من الله دوماً، لكنها تبدأ عندنا عندما نتمسك بحياة نسكية موافقة لنا تشدّ انتباهنا كل لحظة إلى النداء الإلهي. إن الصلاة والصوم والسهر هم مجرّد ممارسات ورياضات ضرورية تجذبنا من الكورة البعيدة إلى البيت الأبوي. لا بداية للحياة الروحية دون هذه الفضائل. ولا لقاء لله مع الكسول! "أعطِ دماً وخذْ روحاً". "النسك" هو يقظة تؤهلنا لنقول "تكلّم يا رب إن عبدك يصغي". آمين.
|