والألعاب المهمشة .. اسمع ضجيجها وهي تغرق في صمت الحطام. قطارات ومدافع وخوذ ورشاشات وطائرات. يا أطفالنا .. يا أطفالك يا أطفال الذين يدفعون ضريبة القتال. كم أرثي لكم وأيديكم الصغيرة لا تستطيع أن تمتد حتى إلى الألعاب.
من الشرفة الساكنة اسمع صوتاً انسانياً .. لا .. ليس انسانياً بالمعنى الدقيق. كان صوت انسان. رجل أو امرأة لا أدري. بين دقيقة وأخرى يتغير .. يتلون. يا الله من الذي يستطيع أن يتحكم بصوته بهذه القدرة وبهذه السرعة.
عيناك تضيقان وأنت تنظرين إلى الشرفة. يخطر لي أنني جننت ربما .. أو أنني أتوهم. لكن الصوت حقيقي وأنت صامتة. حدثيني. قولي أي شيء. ما هو هذا الصوت، لكنك مصرة على صمتك وعلى أن تتجاهليني وتزدريني.
أغامر بالخروج إلى شرفة بلا زجاج .. مكسورة الجوانب وعلى شفا الانهيار. هل كان يخطر لي ذلك الظلام المشحون بالحذر والخوف أن أجد ببغاء؟ اقترب منه انظر إليه بدهشة .. ألامس قضبان قفصه يضطرب هو الآخر ويبتعد إلى أقصى نقطة في القفص ثم يصمت هو الآخر.
يا لذلك الليل الطويل .. الطويل .. وأنا في غرفتك محبوسة الأنفاس لا أدري ما أفعل. أتنقل بعيني بين أشيائك وقفص ببغائك ولا أجرؤ على أي تصرف، كم كان ثقيلاً كقطعة من رصاص .. وهشاً خفيفاً بآن معاً. وبين هذين الإحساسين المتناقضين التهمت عقارب الساعة دقائقه وثوانيه.
عند الفجر كانت كلانا منهكة متعبة. أنت تتكومين في زاوية صغيرة مثل قطة ضالة. وأنا مصلوبة على الشرفة قرب الببغاء. هل أتركك دون أي حوار من أي نوع؟ هل أكون كقطرة ماء انسفحت على أرض شديدة الانزلاق:
لا .. لابد أن أمضي اليوم أو جزءاً منه معك. ما دمت لا تطردينني فسأظل معك .. أن لك ديناً في عنقي يوم فقدت طفلي الأول وظللت إلى جانبي في المستشفى حتى شفيت. فكيف وأنت تفقدين حفيدك ولا أمل لك بالشفاء.
مع خيوط الفجر أتحرك من مكاني. أقترب من الببغاء. أناديه. لكنه ينظر إلي بطرف عينه بازدراء. أفتح له باب القفص لكنه لا يخرج. يمط عنقه .. ينفش ريشه ويسوي وقفته ثم ينظر إلى الشارع ويغمغم بأصوات مبهمة.
ها قد أصبحت رهينتك .. وكل منا سجينة الصمت .. ولم يعد لي من أمل سوى أن يثرثر الببغاء وأن أستمع كلاماً ما ولو أنه مفرغ من أي معنى.
الببغاء يردد كل الأصوات .. يعيد كل الكلمات والعبارات. هنيئاً له: هو ليس مع أحد .. ليس ضد أحد. لا مع الفرح هو .. ولا مع الحزن. يكرر الضحكة كما يشيح البكاء بحيادية تامة. يكركر كالطفل ويهذر كالعجوز.
لأول مرة في حياتي أحب الببغاء .. وأتمنى لو أحتضنه بيدي. في طفولتي كانت جدتي تعلق ببغاء أنثى في قفص نحاسي كبير فوق (البحرة) وتعتني به أكثر مما تعتني بنا. وتطرب دائماً إذ يقول لها كل يوم (صباح الخير) كأنما كانت تحصل على كنز. لم أعرفه ينطق سوى بهذه الجملة .. وبأسمائنا نحن واحداً واحداً .. سمر .. زينة .. وردة .. فارس. لم يفرغ مخزونه مما سمع إلا قبل أن يموت .. وبكت جدتي لأنها اكتشفت في حلقه أسراراً من عبارات كان قد خبأها عنه .. وطوال فترة احتضاره كانت تنصت بخشوع لكل ما يقول.
بعد أن امتد الصباح كانت على الرصيف تحت الشرفة جماعات من البشر .. باعة متجولون وكتب مصفوفة على جدار متهدم .. وأطفال يصيحون على الجرائد .. وأكشاك صغيرة لبيع الخبز .. وأصناف كثيرة ممن يعرضون بضائعهم. وإذ يلعلع الرصاص يبدؤون بالهرب.
الببغاء يمط عنقه .. ينفش ريشه ويرمش بيضه ولا يعيد حرفاً واحداً مما يسمع حتى مما تبثه الإذاعة المفتوحة وقد نسيها صاحب المذيع. يا لسذاجتي .. لماذا تصورت انه لابد سيردد فوراً ما يصل إليه من أصوات؟
وأنت .. يا سيدة الحزن والصمت كنت في الظل من زاويتك قابعة بسكون وعيناك مثبتتان حيث ببغاؤك. لم أجرؤ على أن أحمل له قفصه وأخبئه في الغرفة وأنت لم تفعلي. تصورت أن هذه هي إرادتك فاحترمتها. لكنني في نهاية الأمر ندمت .. ليتني فعلت.
تشابك الرصاص لم يدم طويلاً. ساعة أو أقل. ثم هدأ كل شيء. وهدأت أنا من اضطرابي وارتباكي. أحاول أن أتلهى بقصاصات الورق بين يدي .. وأبحث عن قلم أخط لك فيه بعض السطور ثم أمضي. هذا ما يريده لنا القدر في هذا اللقاء المتأخر كثيراً عن وقته فماذا أفعل وقد قطعت بينا الجسور؟ ماذا أفعل في لقاء امرأتين بعد سنوات طويلة من مسارات حياتين شديدتي التعقيد والتشابك؟ لا النضال أجدى فيهما ولا القلم .. وكل منا فريسة صمتها الخاص .. وحزنها الخاص وكان لابد لي أن امضي .. فلأمض.
أسمع أصواتاً مختلطة. عبارات متضاربة لأطفال ونساء ورجال متعددي اللهجات والنبرات .. وصوت صفارة إنذار .. وزعيق سيارات إسعاف .. ورنين ضحكات أيضاً.
ماذا جرى. هل جاؤوا لينتشلوك أم ليبعدوك عني أم ليهزؤوا بنا معاً. لكنك أنت صحيحة الجسم والعقل وهادئة وديعة كحمامة ولك كل الحق أن تعيشي بحرمة كما تريدين .. وأنا أنا المقتحمة حياتك .. المتطفلة على صمتك وحزنك سوف أنسحب بطواعية جندي مهزوم.
وما أظن أن موقفنا يستدعي الضحك منه .. بل الرثاء.
الأصوات تضج .. تزداد إلحاحاً .. وأنت تغرقين أكثر وأكثر في صمتك وتغيم عيناك حتى يغطيهما ضباب قاتم كثيف. ترتخي أجفانك وأنت تنظرين إلى الشرفة حيث القفص.
يخطر لي قبل أن هبط الدرج أن أطل على ببغائك الذي آثر الصمت هو الآخر. حتى الببغاوات تحترم إذ تصر على الصمت عندما لا يجدي الكلام. الصمت موقف يا سيدتي .. والحزن موقف .. والموت نفسه موقف من الحياة.
اقترب من القفص فأجد الببغاء يغرق في بركة صغيرة من الدم وحشرجات خافتة تتردد في صدره. كيف اخترقه الرصاص وقد هدأت المعركة. ولماذا لم نسمعه أنا وأنت، هل كان بامكاننا أن ننقذه فيما لو سمعنا؟
الببغاء إذن هو الذي كان يفرغ كل تلك الأصوات .. وهو يحاول أن يعيد آخر عبارة له فلا يقدر. أتحسسه، ليس فيه جرح أو ثقب أو أي أثر لرصاصة ما. الدم يتدفق من منقاره مع الكلام. هل أنتحر مثلاً: وهل تعرف الطيور الانتحار؟ خاطر غريب لمع في ذهني عندما تعثر أناملي على قطعة زجاج حاجة تختلط بالدم الذي بدأ يتخثر .. وبالصوت الذي بدأ منقطعاً مع عبارة محتضرة (لكن الحقيقة لا تموت).
من أين سمع الببغاء هذه العبارة؟ لم يعد يهم .. ما دام الببغاء يموت. أرتد نحوك .. يا سيدة الحزن والصمت. أريد أن أتأكد أنك تسمعين فأسمعك تقولين ولكن الحقيقة لا تموت .. الحقيقة لا .. الحقـ ..
وتضيع الحروف
وأضيع مع آخر شعاع لها يموت.
أووووف أوووف
يا أم الزلووووف
قرد ...... قرد
ولا نمر . ما بتفرق
كيفكن شباب
|