موهومة
جلست بجوار زوجي صامتة , في شرفة الفيلا الكبيرة . حزينة و محبطة . كانت فرحتي عظيمة بفكرة أنني أجمع أسرتي لمدة عشرة أيام , أبنيّ و زوجتيهما , ابنتي و زوجها , و أحفادي الخمسة في فيلا أجرناها أنا و زوجي في قرية صغيرة على الساحل الشمالي . لم نجتمع بالكامل هكذا , حتى الأجازات الأسبوعية و الأعياد كان توحيد مواعيدهم نادراً في زياراتنا و قضاء اليوم معنا , سنوات طويلة نجتهد و نتعب أنا و زوجي في عملنا لنربي أبنائنا أحسن تربية , و نقتصد لتزويجهم , و عندما خرجنا على المعاش قررنا أن نخصص جزءاً من مكافئة نهاية خدمتنا للصيف , نؤجر شقة واسعة أو فيللا لنجتمع كلنا , قرننا أن نقضي الصيف في أماكن مختلفة من بلادنا . كنت أريد أن أعيد ذكريات الماضي عندما كانت أمي تجمعنا أنا و أخوتي و أخواتي و أسرنا . منذ رحلت أمي لم تعد أسرنا تجتمع . كنت أريد أن أعيد لأبنائي ذكريات طفولتهم و صباهم , و أعوضهم عن سنين كثيرة لم نستطع أن نصحبهم إلى مصايف , لكنهم خذلوني !!
سألت زوجي : هل كان يتذمر عندما كانت أمي تجمعنا في الصيف في شقتها في الإسكندرية , و لأخلاقه العالية لم يبد أي تذمر ؟ قال أن متع التسلية في ذلك الوقت كانت قليلة , و كانت الحكايات و المناقشات التي تجمع الشباب ثرية , بجانب أننا لم نكن نملك ما يفيض من مرتباتنا لنذهب وحدنا إلى مصيف . قال إن ولدينا يعملان بأجور مجزية و ابنتنا متزوجة من شاب يعتبر ثرياً بأسرته . كنا في عمرهم لا نملك ما يملكونه الآن , و على أي حال فقد مكثوا معنا عدة أيام , فرحنا بوجودهم , و كل منهم أراد أن يمضي بقية إجازته بالطريقة التي يفضلها فلماذا أحزن هكذا ..!؟
قلت أن الأولاد _أحفادنا_ يمكن يكون لهم عذرهم في التذمر , فلا توجد رياضة يمارسونها , و حتى البحر هنا خطر و بعيد , و هم أرادو السباحة في البحر و ليس في حمامات السباحة , لكن البنات المفروض أنهن غير الأولاد , فلماذا تذمرن من هذا المكان الهادئ , و قلن أنه مكان كئيب ..!
كنا و نحن بنات في عمرهن نفرح بالقليل , نفرح باجتماعاتنا مع بنات و أولاد عائلة أمي في بيت جدي في الإسكندرية , كنا نفرح بمجرد السير على الكورنيش نفرح بوجودنا في أحضان الأهل . قال إن الزمن الآن غير زمان , و الحياة غير حياة , و الناس غير الناس .. و ما كان يسعدنا و نحن صبايا لا يسعد الصبايا الآن , و سألني أن أغير ملابسي لنخرج و نسير في القرية فنحن لم نكتشفها في الأيام الخمسة السابقة لانشغالنا بالعمل على راحة أبنائنا و أحفادنا , و اليوم أصبحنا وحدنا بعد أن اعتذرت ابنتنا عن تكملة المدة معنا , كما اعتذر ولدانا من قبل , لننعم نحن بنزهتنا , فلا يصح أن نمضي بقية هذه الأيام في نكد بسبب ما فعله أولادنا .. معك حق .
دخلت الفيللا .. ربما لأول مرة منذ خمسة أيام ألاحظ أركانها و أثاثها . وجدت ركناً به قواقع بحرية و مركب خشبية صغيرة . أخذت قوقعة كبيرة , ووضعتها على أذني كما كنت أفعل مع القواقع التي كانت في بيت جدي . سمعت من خلال القوقعة صوت أمواج البحر . شعرت بوحدة و هزيمة . سمعت صوت أمي تنادي عليّ تسألني أن أضحك . سمعت ضحكتها الناعمة وسط أمواج البحر . سمعتها تقول أنني أيضاً كنت أخالف رأيها و مزاجها . سمعتها تنصحني أن أتقبل أولادي كما هم . ألا أحزن .. إنهم مختلفون .. سمعت زوجي ينادي عليّ .. وضعت القوقعة مكانها .. سألني : هل سمعت صوت البحر ؟
سرنا وقت الغروب نكتشف القرية الساحلية الصغيرة , فيلات و شقق في مبان غير مرتفعة بسكانها , و أخرى خالية مغلقة . أو لم يكتمل بناؤها . وجدنا مقهى صغيراً . جلسنا رحب بنا صاحب المقهى .. سكان جدد ..!؟ سألنا .. قال زوجي : إننا مؤجرون و لسنا مالكين , قال الرجل إن هذه القرى الساحلية كان المفروض أن تكون معظم مبانيها فنادق بدرجات مختلفة و مساكن للإيجارات المعقولة لتكون كلها عامرة في الصيف , و حتى لا تكون مثل الخرائب الخالية معظم شهور العام . وافقت زوجي ..وجدنا حديثاً يملأ الفراغ بيننا , عن هذه القرى التي لم تكتمل الخدمات الحياتية في معظمها كما قال لنا صاحب المقهى .. عن الإعلانات المهولة التي تملأ الجرائد مع مطلع كل صيف منذ سنين قريبة عن هذه الأماكن و إغراءات الشراء .. كلها للشراء !!
قمنا لنواصل سيرنا . سألني زوجي ماذا قال ابننا الأكبر قبل أن يسافر مع أسرته ..؟
" قال إنه لا يتحمل الحياة مع كل هذه الأجساد في بيت واحد و أن زوجته جاءت لتتفسح لا لتساعد في الطبخ لقبيلة .." ضحك زوجي و قال : " أتذكر حماتي عندما كانت تجمعنا في شقتها في المعمورة أكثر من عشرين شخصاً .." زادت ضحكاته .
" و كانت تقول الصيف يحب اللمة .. و كانت الأسرّة غير كافية فتقول حصيرة الصيف واسعة .." تعالت ضحكاته .. " " و كنا نصدها و ننام على الأرض مسرورين .." ضحكت .
زادت ضحكاته : " كانت حماتي ت}جر شقة المعمورة طول العام بمبلغ يقل عن ربع المبلغ الذي دفعناه إيجاراً لمدة عشرة أيام هنا . و كانت دائماً تذكر ذلك المبلغ لنا لحرصها على سعادتنا في الصيف . ضحكت .. سألني ماذا قالت ابنتنا في اعتذارها ..!؟
"إنها لابد أن تقضي بقية إجازتها و زوجها مع أسرته في منتزه الإسكندرية كما تفعل كل عام .. كما أن زوجها يمل من لعبة الطاولة التي تجبره على مشاركتك فيها .." ضحك .. قال : " أتذكر حماي عندما كان يلاعبنا الطاولة أنا و أخوتك و أزواج أخوتك بالدور و نتركه يغلبنا ليفرح و يشتري لنا آيس كريم .. تذكرين جلستنا المسائية في الحديقة التابعة لتلك الشقة الأرضية " .. تعالت ضحكاته .. " أتذكر عندما انتهزت أختك فرصة انشغال والدك في لعب الطاولة معنا و خلو حجرته و أخذت زوجها ليمارسا الحب تحت سريره .. كانت معذورة , في النهار الحجرات مفتوحة و في الليل متكدسين فيها .. و أراد والدك أن يحضر شيئاً من الحجرة فوجد سريره يتحرك . صرخ حرامي .. كانت فضيحة .." تعالت ضحكاتنا .. " إلى الآن لا أدري كيف فعلاها تحت الفراش ..؟! "
" اعتبرتها أختي فضيحة مع أنها كانت مع زوجها !! و أرادت أن تترك المصيف من شدة خجلها , و العالم الآن يتحدث في الأمور الجنسية كما يلوك اللبان , و البنت التي عملت فضيحة حقيقية لرئيس أميركا وقفت أمام العالم تحكي ببجاحة ووقاحة تفاصيل علاقتها الجنسية معه .. يا خبر أسود .. !" تعالت ضحكاتنا . سألني ماذا قال ابننا الثاني قبل أن يسحب أسرته لقرية ساحلية أخرى ..!؟
" قال أنه يضطر كل مساء أن يصحب ابنتيه و زوجته إلى هذه القرية التي تبعد عن قريتنا بعشرين كيلو متر و الطريق في المساء خطر , لأن أعز أصدقائهم هناك , كما يوجد بالقرية تسالي كثيرة فأجر شقة صغيرة هناك لمدة أسبوع بمبلغ من المال لا يقل كثيراً عن المبلغ الكبير الذي دفعناه في الفيلا الكبيرة هنا .." ضحك و قال : " تذكرين عندما تشاجر والدك معنا لأننا اشترينا أربعة كيلوغرامات عنب بجنيه , قال أن البائع ضحك علينا و أننا "نبعزق" نقودنا .." تعالت ضحكاتنا .
و تشعب بنا الحديث الضاحك عن مفارقات الحياة .. ماذا كان !؟ و ماذا الآن ..!؟ و تعالت ضحكاتنا إلى أن وصلنا إلى الفيلا .. جرت الدماء في عروقنا من السير من الضحك . جلسنا في شرفة الدور الأرضي .. واه يا أمي .. واه يا أبي .. و تنهيدة من الأعماق و نحن نقول كانت أيام جميلة ..
تساءلت : لماذا الأيام الجميلة تكون دائماً في الماضي ..!؟ قال : " ربما لأننا لا نشعر بها إلا بعد مرورها .. يعني لا نشعر بها و نحن نعيشها .. و لأننا الآن كبرنا فلابد أن ندرك اليوم الجميل الذي نعيشه و نفرح به .."
" من زمن لم نضحك معاً من أعماقنا .. على الرغم من كل شيء .. الأولاد .. و النقود الكثيرة التي دفعناها فهذا مساء جميل في حياتنا .."
حاولت أن أفكر في توقيع خاص لكنني !! وضعت يدي على فمي وكسّرت القلم !!
أأصنع توقيعاً من حبر في حين يصنع أطفال الأقصى والعراق تواقيع من دمائهم
فتوقفت عن وضع أي توقيع
ومنتسبة ب .................اخوية كروب
|