هذا الرجل الجليل الذي قام بخدمات إنسانية كبرى أثناء الحرب الأهلية في لبنان . و لم يفرّق بين دين و مذهب خلال تقديم تلك الخدمات للمحتاجين و المعذّبين . هذا الرجل العظيم الذي لا يستهويه مجالسة الأغنياء و لا المواكب الطنانة . لا مرافقات و لا إجراءات أمنية ، كما يفعل غيره . يعيش حياة بسيطة . ينقطع عن الناس من حين لآخر و يختلي بنفسه ، ليخرج لنا بعد خلوته بكتابات خلاقة و أفكار إنسانية أصيلة ... لكنه للأسف الشديد ، دفع ثمن هذا السلوك المستقيم غالياً ! و قد صدم الملايين من المشاهدين حين تعرّض للضرب على الهواء مباشرةً !.. مهما حاول المسئولين و أصحاب المناصب الذين تسابقوا لإرضائه و تطييب خاطره بعد ذلك الحادث الأليم ، لكنهم لا يستطيعوا تجميل صورة الواقع المقيت . الواقع الذي يقول : إننا لازلنا نعيش في زمن الرعب من قول الحقيقة !.
لأن الشعوب لم تنضج بعد لتقبّل الحقيقة !. هذا ما قاله الأب جرجس حداد و هو يبتسم ، حينما سألوه عن سبب ما جرى له ..
جميع الأديان التي نشأت على هذه الأرض ، منذ فجر التاريخ ، تمحورت حول رجال مقدسين ، روحانيين ، يدعون للمحبة و الألفة بين البشرية ، حاربوا الشرّ بكل وجوهه ، و واجهوا السلطة الدينية السائدة في أيامهم ، حاربوا كهنتها و مشعوذيها و طغاتها . فتبعتهم الجماهير لصدق ما يقولون و يفعلون . و بعد أن فارقوا هذه الحياة تابع تلاميذهم المسيرة الشريفة ، و لحق بهم المؤمنين . لكن بعد مرور جيل أو جيلين ، نرى أن تلك المجموعة الشريرة قد ظهرت من جديد ، المجموعة ذاتها التي حاربها القديس . لكن هذه المرّة نراهم يمثّلون مذهبه و تعاليمه ! و يبشرون باسمه !. فيصبحون أشخاص نافذين بعد أن استمدوا قوتهم من شعبية القديس الراحل .. فيسيطرون على الجماهير بواسطة فرض تعاليم القديس !. و بما أن هدفهم هو السيطرة على المجتمع و ليس هدايته و إرشاده ، يقررون إضافة بعض النصوص في هذه التعاليم ! و قد يشطبون البعض منها . فيخرجون بفرائض دينية مفصّلة على مقاس نواياهم الشريرة !. و بدلاً من حكم الجماهير عن طريق المحبة و الاحترام و الألفة ، يذهبون إلى استعبادهم عن طريق نشر الرعب و الظلام و الجهل !.
هذه أساليب معروفة عند الكهنة في جميع أنحاء العالم ، و على مرّ العصور . و بما أنهم يعلمون أنه قد يظهر بين رعيتهم رجال أذكياء قد يكتشفون نواياهم و يفضحون ما هم فاعلون ، فيضيفون نصوصاً مقدسة تشدّد على موضوع العقاب !. سوف تعاقب عقاباً شديداً إذا فعلت كذا و كذا .. سوف تحرق في النار إذا قمت بكذا و كذا و كذا ...! و طبعاً .. هم على تمام المعرفة أن هذا العقاب سوف يكون من نصيبهم في العالم الآخر .. فلهذا السبب ، و من أجل بسط نفوذهم في هذه الدنيا ، يعتمدون على مجموعة من الحمقى المتعصبين الذين يعملون على خدمتهم بشكل أعمى طمعاً بالمكافئات الثمينة التي يعدونهم بها ، في الدنيا و الآخرة . و يعطونهم سلطات تنفيذية مطلقة على رقاب الشعوب !. و ليس على الشعوب سوى الخضوع للأمر المفروض قسراً ، ليس مخافة من الله ، بل خوفاً من هؤلاء الحمقى المتوحشين !. و بعد مرور عدة عقود زمنية على هذه الحال ، نرى أجيالاً من العبيد قد ظهرت في هذا المجتمع المقموع . راضخين تماماً للكهنة و كل ما يأمرون به و مؤمنين تماماً بتعاليمهم .
الجميع يعتبر البوذية هي ديناً بحد ذاته . لكن بوذا كان ينتقد النظام الديني . و قد رفض سلطة رجال الدين القائمة في عصره . و رفض استبدال المعتقدات الدينية السائدة ( الفيدا ) بمعتقدات أخرى تستند إلى تعاليمه ! لأنه كان يعلم بأنه عندما تتحوّل التعاليم الروحية إلى دين ستصبح عبارة عن احتفالات و مراسم شكلية لا تمثّل سوى مضيعة للوقت ، و أفكار لاهوتية هي ليست سوى خرافات .
علّم بوذا تلاميذه بأن يقرروا مصيرهم بنفسهم و لا يستشيروا الكهنة بتفاصيل حياتهم المختلفة ، و أن يتحملوا نتيجة أعمالهم التي لا أحد يعلم عنها سواهم ، و لا يستمعون لرأي الكهنة المظلّلين !. دعا بوذا إلى حياة متفانية تدعوا إلى التعاطف الكوني و الأخوة بين جميع البشر و حتى الكائنات ! و علّم كيف يصل الإنسان إلى حالة النيرفانا ( البحران أو التواصل مع الله ) و هي حالة روحية تؤدي إلى التحرر من العذاب و البؤس الدنيوي . لكن نلاحظ أن تعاليم بوذا قد أصبحت فيما بعد ديناً قائماً بحد ذاته !. دين قاسي متعدد المذاهب ، و احتفالات و مراسم ، و خرافات !. و ظهرت طبقة رجال دين مستبدين فعلوا بالشعوب ما فعلوه !.
هناك أمراً مهماً قد يفوتنا في هذا المجال . عندما نتكلّم عن شعوب راضخة رضوخاً تاماً بيد مجموعة من الكهنة ، هذا يعني استقراراً تاماً في البلاد !. هذه المعادلة معروفة منذ الأزل ، و طالما استغلها الملوك و السلاطين . فهذا الوضع يرضيهم تماماً . فيزيدون من سلطة الكهنة و نفوذهم و أحياناً يدعموهم في كل ما يقترفوه بحق الشعوب ! المهم أن تبقى البلاد في حالة استقرار !.
و بما أننا دخلنا في مجال الأمن و الاستقرار ، يجب أن نعلم أن في تلك الفترات القديمة ، منذ آلاف السنين ، كان هناك دول و إمبراطوريات مترامية الأطراف ، لا يمكن تخيّل مساحاتها الشاسعة . و بعض منها يتطلّب السفر لمدة سنتين من أجل اجتيازها من الحدود إلى الحدود ركوباً على الجياد أو الجمال !. و لم يكن في حينها أجهزة أمنية متطوّرة أو أجهزة اتصالات أو وسائل مواصلات سريعة . فكان كل ملك يبحث عن دين قوى يمكنه من القبض على الرعية من أرواحهم حتى يتمكن من الحفاظ على تماسك الدولة و وحدتها ! و بما أنه لم يكن يعرف مفهوم جهاز أمن الدولة في حينها ، نجد أن الجهاز الذي يقوم بنفس العمل هو ما يسمونه دين الدولة !. و هذا ما يفسّر سكوت الملوك و تغاضيهم عن الفواحش التي كان يرتكبها الكهنة و رجال الدين بحق الشعوب !.
لقد ألغى سيدنا رسول الله ص الطبقة الكهنوتية من الإسلام . و حرّمها تماماً . و وصف رجالها بالسحرة و المشعوذين . فكان يعرف مدى خطورة هذه الطبقة الاجتماعية على الشعوب و إمكانية إبعادهم عن الإيمان الأصيل . لكن ماذا حصل بعد وفاته بعقود قليلة و ظهور الممالك و الخلافات الإسلامية المختلفة هنا و هناك ؟ .. ظهرت هذه الطبقة من جديد !. لأنها كانت ضرورة استراتيجية و أمنية لا يمكن للملوك الاستغناء عنها أبداً !.
و اعتمدوا على فتاوى رجالها اعتماداً كبيراً في حكم الشعوب !. و برز ما كان معروف بمفتي السلطان !... أما اليوم ، و في هذا العصر الحديث ، رحنا نشاهد ظواهر غريبة عن المفهوم الإسلامي الحنيف ، عمليات جهادية مشبوهة هنا و هناك . أتذكّر جيداً ذلك المشهد المريع ، حينما أمر خلفاء أفغانستان المسلمين ( الطالبان ) بتفجير تماثيل بوذا بحجة القضاء على عبادة الأصنام ! تلك التماثيل التي تعود إلى آلاف السنين . تلك التماثيل التي مرّ بقربها أجدادنا الفاتحين المسلمين الأوائل ، و لم يمسّوا منها حجراً واحداً ! لأن أخلاقهم العالية و رسالتهم الشريفة هي أرفع مستوى و أرقى بكثير من النزول إلى هذا المستوى الهمجي . لقد تجرأ رجال طالبان بفعل ما لم يفكّر الفاتحين المسلمين الأوائل فعله منذ أكثر من ألف عام !. من الذي أفتى بهذا العمل ؟ من له مصلحة في تحريك مشاعر العداء عند البوذيين ( معتنقي الديانة البوذية ، الديانة الثالثة في العلم من حيث العدد ) نحو الإسلام ؟. من له مصلحة في الأعمال الأخرى المشبوهة حول العالم ؟.
هل بدأنا نشهد ظهور مفتيين من نوع آخر ؟ مفتي الاستخبارات الأمريكية مثلاً ؟ أو مفتي الموساد ؟.. لقد حذّر سيدنا رسول الله ص من هذه المظاهر المضرّة بالإسلام ، و التي سببها هو الطبقة الكهنوتية التي تنشأ تلقائياً في كل مذهب و دين ، و التي يمكن اختراقها من قبل جهات كثيرة مغرضة ، تعمل ضد الشعوب !... لقد دخل أعدائنا و تلاعبوا بمجال لا نجرؤ على الإسهاب في الحديث عنه .. لقد اخترقوا عالمنا الروحي المليء بالمسلمات و المقدسات ..إنها فعلاً خطة شريرة ذكية .. قام بها الأعداء .. لأنهم يعرفون أننا لا نجرؤ على مواجهتهم بحريّة كبيرة في ذلك العالم المقدّس ... تلك الطبقة الروحية الجليلة التي يختبئون وسطها و يصوّبون الضربات القاتلة نحونا !.
|