يقول الاستاذ كامل الخلعي وهو فنان وباحث مصري كبير »لابد لنا ان نفتش عن طريقة ما نجعل موسيقانا من خلالها متميزة تستطيع ان تخاطب العقل العربي وتقتحم القلوب وتكسر القيود الاجتماعية«. وفي المؤتمر الموسيقي الاول ادخلت النوطة على الموسيقى العربية وقد كتبت من اليمين الى اليسار وبدأت الدراسات تقدم من قبل الباحثين ثم كانت البعثات الى فرنسا وبعض الدول الاوروبية واستقدام المدرسين الاجانب، واخذ الاختلاط مساحة اكبر في الوطن العربي وذلك هو اهم شيء واسلم طريق للنهضة العقلية التي فتحت الابواب امام الموسيقيين العرب لأن يتحركوا باتجاه وضع موسيقى معاصرة متطورة بعد ان ادخلوا عليها نماذج ايجابية استقوها من الموسيقى العالمية، وكان على الجانب الاخر من يقف ضد التيار الجديد خوفا على التراث وعلى الاصالة من التآكل ولكن لابد لنا ان ندرس التراث بدقة ونتفهم جوانبه الايجابية ولماذا حمل بعض النواحي السلبية وكيف نضع قوالب جديدة لموسيقانا المعاصرة لا تتعارض مع التراث الذي هو اساس التطور الحضاري.
وللاستاذ الباحث الموسيقي الكبير توفيق الباشا رأي سديد في هذا المنحى حيث قال في واحد من بحوثه الموسيقية القيمة (ان لفظة التراث تجعلنا ندور حول انفسنا كما وكأننا في يد مارد جبار تغلب علينا). والافضل ان نستخرج من التراث ما يفيد التطور ونحتفظ بالباقي منهلا نفيد منه في الحاننا ومؤلفاتنا الموسيقية، وقد اخذ الخروج الى فضاءات الموسيقى الحديثة مخرجين مختلفين: احدهما طريق سلكه فريق الناهضين الذين ارادوا بالموسيقى العربية ان تنافس في تطورها موسيقى العالم سواء في ادائها او في تعبيرها.
اما الطريق الاخر فهو الذي سلكه فريق ظن واعتقد بأن النهوض بالموسيقى العربية انما يكون باحياء القديم منها وتركه على ما هو عليه. ونحن مع الفريق الاول لاننا نرى ان الموسيقى العربية هي اغنى بكثير من الموسيقى الاخرى لما تمتاز به من مقامات متعددة وبناء متكامل يتسم بالسعة الصوتية لكل مقام.
ولا نهمل الرأي الاخر لأن احياء التراث مع ادخال بعض اللمسات العصرية عليه واجب قومي واخلاقي. ومن اهم المفردات التراثية التي يجب الحفاظ عليها هي الترانيم المنفردة الارتجالية البشرية منها والآلاتية مع علمنا بأن الموسيقى لن تأتي للطرب والرقص فحسب بل انها وكما ذكرنا ونؤكد دائما علم واسع وصعب ومعقد يقف في مقدمة العلوم الانسانية وله علاقة مباشرة في تكوين الانسان الحسي والشعوري والعقلي، اذن لا مانع من ان نبرز الجانب الحسي والجمالي جنبا الى جنب بالمحافظة على التراث الاصيل، فكما ذكرنا نهضت الموسيقى العربية في الخمسينيات بأسس رصينة تحمل التجديد واخذ الغناء صفة ثقافية علمية الى جانب التطريب وبدأ الشعب العربي يتفهم شيئا فشيئا اسباب وجوب علم الموسيقى وبدأ يقر بأنها اولا رافدا مهما ينشط العقل وثانيا تأكد لدى الطالب العربي اهمية الموسيقى الحضارية لأنها منحته الهوية من خلال التطور المادي الذي عصف في العقول، فبعد ان كان اقتناء الآلة طموحا اصبح هذا الطموح علما متداولا فدخلت الآلات البيوت كما تسارعت حملتها الى الكليات والمعاهد الموسيقية، وتقدمت الدراسات وتطورت الاغاني والمؤلفات الموسيقية وبدأت بالانتشار خارج الوطن العربي وكانت تترجم بعض الاعمال الى عدة لغات ووصلت اصوات المطربين الى اقصى الارض وعرضت المسرحيات الغنائية في اكبر المسارح في اوروبا، وكان هذا التطور سدا منيعا ضد كل هجوم قام به الغرب اراد منه تصدير موسيقاه الى اذان الشباب العربي.
فهو يعلم اي الغرب ويقدر النتائج التي تأتي وراء هذه الصحوة الموسيقية فقد استطاع الحس العربي ان يميز ما بين الرديء والمقبول والمتميز وعلى هذا الاساس نقول بالتطور.
اولا: التطور الملحوظ الذي طرأ على الاغنية العربية، في مصر مثلا سادت الطقطوقة زمنا الغناء المصري، والطقطوقة هي الاغنية التي تسير على رتم واحد لا يختلف الكوبليه الثاني عن الاول عن المذهب وكانت تخضع للايقاعات المحلية نراها اي الاغنية المصرية قد اخترقت هذا الاطار وبدأت بالاتساع واصحبت مدرسة يقتدى بها وبرزت اصواتا قادت الاغنية الى النجاح، ففي الخمسينيات كان عبدالحليم وفائزة احمد ونجاة الصغيرة هذه الاسماء قد اضافت لقائمة الاوائل نكهة للاغنية العصرية واصبحت الاغنية لديهم تنتقل بانسجام دقيق بين نغمات متعددة. وكان عبدالوهاب والموجي وبليغ وكمال الطويل يتحفون الاذن العربية بلوحات لحنية رائعة، اما في لبنان بلد الحب والجمال فكان وديع الصافي وصباح صوتين تربعا في قلوب الجماهير العربية على امتداد الوطن باغان خفيفة تحمل عبق التراث وحركة التطور في آن واحد.
اما عن الموسيقار فريد الاطرش فقد عبر بعوده المنفرد الذي اخذه عن استاذه الفنان فريد غصن، وقد ظهرت مواهب فريد الاطرش مبكرا، ولما دخل باب الغناء والتلحين لازمه الارتجال الى اخر ايام حياته ويبدو ان هؤلاء الفنانين كانوا لا يجدون انفسهم الا بالارتجال رغم الاعمال الكبيرة الخالدة التي اثرت الموسيقى العربية من مؤلفات موسيقية والحان كبيرة، وكانت حفلات فريد الاطرش لا تخلو من العزف المنفرد على آلة العود وهذا شيء يعلم به القاصي والداني.
وكان مقام الكرد مسيطرا بشكل غير طبيعي على فريد الاطرش ويبدو ذلك جليا في حفلاته الكبيرة التي قدم من خلالها اغاني (اول همسة) و(الربيع) و(عش انت اني مت بعدك واطل الى ما شئت صدك« وهي قصيدة بشارة الخوري.
اما الأولى والثانية فكانتا لمأمون الشناوي كان قبل ان يبدأ بالاغنية يداعب اوتار العود باسلوب شيق يستنفر المشاعر والاحاسيس وكان الجمهور ينشد الى فريد وترانيم عوده بطريقة عجيبة ويتجاوب معه باسلوب غريب كما عزف فريد نغمة الرست قبل اغنية (اسمع لما اقولك) ونغمة الحجاز كار مع اغنية (بقا عاوز تنساني) هذا من الناحية العزفية اما من الناحية الغنائية فإن معظم اغانيه يصاحبها الموال الارتجالي حتى في اغاني الافلام الصغيرة كأغنية (زينة) واغنية (وحداني) واغنية (لكتب على اوراق الشجر) وغيرها وهكذا هو الارتجال لدى فيروز ووديع الصافي وصباح فخري وناظم الغزالي دخل في القلوب وحفظته الناس وكانت الموهبة تتجلى وقد اصبح واضحا انها اساس الغناء والموسيقى، اما عن الكليات والمعاهد الموسيقية فنقول انها الجانب الاخر المهم المكمل للموهبة فطالب العلم الموهوب المحصن بثقافة اكاديمية يدرس النظريات الموسيقية وعلم الاصوات والصول فيج ويخضع الى منهج تربوي مدروس كي يتمكن من اكتشاف الاصوات وابعادها الموسيقية ويطلع على المصطلحات ورموز النوطة لكي يفرق بين صوت وصوت وايقاع وايقاع، ولا يجوز للمطرب الا يفهم على اي طبقة يغني واين تستقر الابعاد الصوتية المتناسقة ويرتكز على سلم ثابت ويتحرك نغميا ضمن انتقالات محسوبة ومدروسة صعودا ونزولا بمقامات مختلفة وهذه مبادئ اولية يجب ان تتوفر لدى الملحن ومع ذلك فإن هناك اسماء كبيرة لمعت في مجال التلحين وعلى يديها تطورت الآلة. وكل هذه الاسماء الكبيرة لم تدرس الموسيقى من الناحية العلمية ولكنها الموهبة التي منحها الله تعالى لهم.
|