أما العلاج الإلهي فيتمثل أولا وقبل كل شيء في الوعد الإلهي بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية، ثم في أقمصة الجلد التي صنعها "الرَّبُّ الإِلَهُ لِآدَمَ وَامْرَأَتِهِ ...... وَأَلْبَسَهُمَا" (تكوين 3: 21). أما نسل المرأة فهو المسيح، المخلص الوحيد الذي "جاء مولوداً من امرأة" من عذراء لم يمسها رجل إذ حبل به فيها من الروح القدس (متى 1: 20) أما سحقه رأس الحية فكان بالموت على الصليب المشار إليه بالقول "أنت تسحقين عقبه" (أي طبيعته الإنسانية)، وفي ذلك مكتوب أيضاً أن المسيح اشترك في اللحم والدم "لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ" (عبرانيين 2: 14). وهنا نجد ثـلاث حقائق في غاية الأهميـة (هي خلاصة موضوعنا هذا
):
1. لاهوت المسيح، لأنه من ذا الذي يسحق رأس الشيطان إلا الله.
2. ناسوت المسيح الذي به صار نسل المرأة.
3. موت المسيح الكفاري الذي بواسطته انتصر على الشيطان وسحقه.
أما أقمصة الجلد ففيها إشارة واضحة إلى الفداء والكفارة. وسنتكلم عن ذلك بالتفصيل لأنه السر في موت المسيح مصلوباً الذي هو موضوع هذا الفصل. ولكن قبل ذلك أشير إلى نقطتين في الإصحاح الثالث من سفر التكوين: النقطة الأولى أن آدم بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة آمن، ولذلك كساه الله بقميص الجلد بعد إيمانه. وهذا هو طريق الله للتبرير دائماً: السمع، والإيمان، ولبس المسيح كثوب البر، ويتمثل هذا في القول "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإيمان بِدَمِهِ" (رومية 3: 24). أما دليل الإيمان في آدم فهو أنه بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة دعا اسم امرأته حواء (أي حياة) لأنها أم كل حي، مع أنه سمع قبل ذلك مباشرة أنه سيموت ويعود إلى الأرض التي أخذ منها، ولكنه بالإيمان بوعد الله عن نسل المرأة ارتفع فوق دائرة الموت ودعا اسم امرأته "حياة"وبعد ذلك نقرأ مباشرة "صنع الرَّبُّ الإِلَهُ لِآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا". فجاء التبرير نتيجة للإيمان
.
أما النقطة الثانية فنجدها في آخر هذا الإصحاح الثالث من التكوين وهي أن الله
"َأَقامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ" (تكوين 3: 24).
وفي هذا نجد الإشارة إلى أن الوصول إلى "شجرة الحياة" أو بالحري نوال الحياة الأبدية يحول دونه "الكروبيم ولهيب السيف المتقلب". ولم يستطع أحد أن يفتح لنا هذا الطريق ويوصلنا إلى الحياة الأبدية إلا المسيح الذي تنبأ عنه زكريا قبل مجيئه بالجسد بخمسمائة سنة قائلاً: "اِسْتَيْقِظْ يَا سَيْفُ عَلَى رَاعِيَّ وَعَلَى رَجُلِ رِفْقَتِي يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. اضْرِبِ الرَّاعِيَ" (زكريا 13: 7). أما الكروبيم فكانت مصورة على حجاب الهيكل. ولما مات المسيح على الصليب نقرأ "فَصَرَخَ يَسُوعُ أيضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إلى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إلى أَسْفَلُ" (متى 27: 50- 51) أي أن الكروبيم الحارسين لطريق شجرة الحياة قد أفسحوا الطريق للوصول إلى حضرة الله، إلى الحياة الأبدية على أساس الإيمان بموت المسيح الذي فيه احتمل ضربة سيف العدل الإلهي عوضاً عنا
.
حتمية الفداء بموت المسيح
رأينا فيما سلف أنه لا يمكن للإنسان تمجيد الله ومحو الإهانة التي لحقته بسبب العصيان، كما لا يمكنه تخليص نفسه من عواقب سقوطه، والحصول على التبرير والقبول لديه تعالى. ومن ثم لزم موت المسيح لفدائه ولتحقيق هذه الأغراض وهنا يأتي السؤال: ألم تكن هناك وسيلة أخرى؟ الجواب كلا. وهنا يأتي سؤال آخر: كيف يسوغ لنا أن نحصر قدرة الله غير المحدودة في وسيلة واحدة لا بديل لها؟ الجواب: إن الله يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أي أمر، ولكن ذلك في مجال كماله المطلق وتوافق جميع صفاته معاً. فلا يقدر الله أن ينكر نفسه (2تيموثاوس 2: 13). ولا يمكن أن ينكث عهـده "وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ" (مزمور 89: 34، عبرانيين 6: 1
. وبما أن الله عادل وقدوس فلا يتفق مع عدله وقداسته أن يتساهل مع الخطية أو يدعها تمر بدون توقيع القصاص الذي صدر منه تعالى "لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ" (رومية 6: 23). صحيح أن الله غفور رحيم، ونحن نعتز برحمته ومحبته اللتين لا حد لهما. ولكن الرحمة لا يمكن أن تتجه إلا متوافقة مع القداسة والعدل. فالذين يريحون ضمائرهم بترك أمر خطاياهم إلى رحمة الله هم واهمون إن لم يستندوا على الأساس الصحيح للرحمة وهو الفداء بواسطة بديل كفء يتحمل كل متطلبات العدل، وحينئذ يتسع المجال أمــام رحمة الله لتتجه للبشر الخطاة لقبولهم وتبريرهم عدلاً حيث يكون الله "باراً (عادلاً) ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رومية 3: 26). ولا يوجد بديل كفء إلا المسيح وحده كما سنرى. والصليب هو الحل الوحيد الذي فيه تمت النبوة "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا" (مزمور 85: 10 ).
ومبدأ الفداء يملأ الكتاب المقدس من أوله إلى آخره، فقد رأيناه لأول مرة في تكوين 3 ثم في تكوين 4 كما سبقت الإشارة. وكان تقديم الذبائح هو طريق العبادة المقبولة لدى الله كما نرى في نوح حيث نقرأ أنه "أَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا" (تكوين 8: 21). وكان إبراهيم يقيم المذبح ملازماً لخيمته. كما نقرأ عن أيوب الذي كان معاصراً لإبراهيم أنه كان يقدم ذبائح بعدد بنيه لفدائهم من القصاص على ما قد يكون صدر منهم من خطايا ولو بالفكر. وقال الله "أَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ" (لاويين17: 10) ولذلك قال الرسول بولس "بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ" (عبرانيين 9: 22
).
وتقديم الذبائح يفيد الاعتراف بالخطايا وباستحقاق الموت. وقد رسم الله لشعبه قديماً في سفر اللاويين أربعة أنواع رئيسية من الذبائح هي: المحرقة، وذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم، وذبيحة السلامة. ومن الذبائح ما كانوا يضعون أياديهم على رؤوسها ويقرون بخطاياهم رمزاً لانتقال هذه الخطايا إلى الذبيحة قبل ذبحها. أما المحرقة فكانوا يضعون أيديهم على رأسها رمزا لانتقال براءتها إلى مقدم الذبيحة.