مرحبا أرجو أن تكتبي دائما وتبحثي عن المواضيع المشوقة والجميلة وتعالجيها بأسلوب أدبي وممتع وأتمنى أن تقرئي هذه القصة للقاص والشاعر السوري محمد علاء الدين عبد المولى أرجو توضيح الرأي فيها بعد إذنك شاكرا لك وداعيا لك بالتوفيق.......
العاصي..
تفّاحة المليونير
قصة محمد علاء الدين عبد المولى
أنا الآن رجل ممتلىء بمائة مليون ليرة... مثلما امتلأتُ بمائة مليون دمعة عندما كنتُ صغيراً، ومائة مليون رقعة ونظرةِ بؤس وشفقة مازالت تتحرك على انحناء ظهري... أمي لم ترني في وضعي الجديد... لم تر حتى مزارع التفاح التي كانت تضحكُ عليّ عندما كنتُ أحلم بها... كنت أودُّ نقلها من ذلك الحيّ المنخفض خلف تلّة عذابٍ، وانتظارِ ما لا يأتي إلى قصر من الرخام والكريستال... لكن أمي أدركت أنها لن تحتمل الخروج من ذلك الحي إلا إلى المقبرة... الموت لا يترك حلم أحد يكتمل... أنا عدو الموت لأنه سيدمرني مرة واحدة إلى الأبد. لا بأس إن متُّ بعد ثلاثين عاماً. بهذا أكون قد عشتُ منذ الطفولة حتى الثلاثين ميتا ميتةً مؤقتة. فإذا عشت الآن ثلاثين سنة حيّا حياة حقيقية كان ذلك رائعا. لو أستطيع إدارة شؤون الوقت الخاص بي. أليس كل من يملك الملايين يفكر مثلي؟ لا لا أعتقد أن أحدا مثلي. إنهم مأسورون بذكريات طفولتهم خاصة إذا كانت هذه الطفولة تسبب لهم احمراراً في الوجوه عند تذكرها. أنا لا يهمني إن كان وجهي سيحمرّ أم لا. إني أحب اللون الأحمر كثيراً. منذ طفولتي أحب اللون الأحمر لأنه لون التفاح. ثم ماذا يؤذيني تذكّر طفولتي؟ هل سيخرج الطفل الفقير الوسخُ ويلتهمُ أموالي؟ ماذا سيلتهم؟ شركة السيارات؟ البنايات والعقارات؟ أعتقد أن ذلك الطفل سيكتفي بأن يأكل تفاحة واحدةً، فيرضى ويرجع إلى بيت أمه سعيداً. سأجعلهُ سعيداً بكل تأكيد. فقد عاش سنوات طفولته لا يجد هواء لطائرته الورقية، ولا خيطاناً لطائرته، ولا ورقا ولا طائرة. يلعب بعينه حيث يجوب المكان وامتداد الزمان منذ الفجر حتى المنام، يلعب بأصابعه الباحثة في بقايا الصحون، في سلة المهملات. كم عذبتك معي أيها الطفل وكم تعذبني الآن. هل ولدتك أنا من ضلعي؟ أما كنا معاً جسدا واحدا وأقمطة فقيرة واحدةً ومرضا وثدياً هزيلاً نرضع منه معاً، أنا رشفة وأنت رشفة؟ أما كنا أنت تسكن في أعصابي وأسكن فيك منذ النطفة الأولى. فما بالك تعذبني الآن وتحاكمني؟ أتعرف أنني مستهلكٌ من قِبَلِكَ حتى وأنا في قاعات لذتي المخملية؟ هربت منك إلى بلاد العالم أبيع وأشتري، علني أنسى جلدكَ المتجعد وقرقعة معدتك الخاوية، أنسى رائحة ثيابك المقززة. قررت أن أنسلّ منك إلى الأبد. ليس لأني أخجل منك صدقني، لكن للعذاب الذي تسببه لي. لم أترك عملا وما مارسته، لألغيك من قلبي. وحينما عدتُ محمّلاً بالملايين الملايين فاجأتني في أرض المطار، دخلتَ تحت ثيابي، جلست معي في السيارة، قذفتَ مقلتيك في عمق عيني، ورحت تتشهى أكوام التفاح... التفاح مرة أخرى... التفاح منذ تلك اللحظة التي لم تعد تنساها منذ وقعت عينك على أول وأكبر تفاحة في العالم، لما رأيتها في يد ذلك الطفل ابن الستّ...
كانت أمي لا تطبخ مرة إلا وينقصها مادة من مواد الطعام: ملح، حامض، بقدونس، عدس، خبز... فترسلني إلى جارتنا أشحذ منها ما ينقص وليمتنا العامرة بالحاجات الناقصة. هل أخجل الآن من ذلك؟ في ذلك الوقت لم أكن لأشعر بأي خجل. ظننت العالم كله مثلنا، فما قد ينقصنا قد ينقص أي أسرة. ولكني لم أستطع إلاّ أن أتساءل لماذا لا يدق أحد من جيران المنطقة باب بيتنا، فأفتح لهم وإذ بولدهم الأشقر ذي الشعر المصفف يطلب من أمي رغيف خبز؟ لا بد أنهم يخجلون من فعل ذلك وسوف أخجل أنا في المرات القادمة وأرفض أن أطلب منهم شيئاً، فهم لا يعاملوننا كما نعاملهم. كأنهم لا يحبوننا. أمي قالت لي لولا حبنا لهم ما كنا طلبنا منهم دائماً. فحزنت كثيرا لأنهم لا يحبوننا... وقررت ألا أطرق بابهم مرة ثانية. لكن... الطبخة على النار وليس عندنا زيت. ومرة ليس عندنا حبة رز... ألا ننتظر أبي حتى يعود – لا أدري من أين يعود – ونأخذ منه ثمن الرز والزيت؟ أمي تشاحن أبي لأنه في رأيها يجلس طيلة الوقت مع رفاقه في المقهى ويدخن النارجيلة على حسابهم (ألا تستحي يا رجل؟) ولكنه إذا عاد ولم يجد ما يأكله قلب الدنيا ورفع صوته وهو يشتم ويلعن ويتوعد ثم ينسحب إلى زاوية في الغرفة يطرق رأسه بين يديه... اذهبي إلى الست إنعام واطلب منهم رغيفين... أتوجه كالعادة إلى باب الست إنعام أنقر نقرات خفيفة كما علمتني الست ذات مرة، حين انهلت على الباب ضربا شديداً، وعندما فتحت فوجئت بي وخفت من عينيها اللتين اتسعت حدقتاهما، وأربكتني. ثم لملتُ أنفاسها وثوبها المنفلت عن تكورات صدرها. أخفتها وقربتني منها وقبلتني على خدي بليونة. شعرت في داخلي بشيء يتحرك. قلت لها أمي تريد... وسحبتني وراءها عبر القاعة الكبيرة حيث كان يجلس شخص لم يكن زوجها. نظرت فيه نظرة حاقدة لم أدرك سببها في ذلك الوقت. وأحببت أمي لأنه لا يجيء إليها شخص غير أبي. حتى أقاربي لا يأتون إلينا... ولأنها عندما تفتح الباب لأحد لا تظهر شيئا من صدرها... أعطتني الست ما أريد وقبل أن أغلق الباب ورائي سمعتها تحدث الشخص الذي كان جالسا والتقطت من كلماتها (إنهم فقراء). سألت أمي هل جيراننا فقراء؟ قالت كلنا فقراء لله... مرة ذكّرت أمي بأنها لم تطلب من الست إنعام شيئا من يومين وقد أحزنني ذلك. فقد اشتقت إلى الباب يفتح فتلملم الست ثوبها عن صدرها المتكور المتورد. طمأنتني أمي أننا سنحتاج اليوم إلى قليل من رب البندورة. لم تكمل كلامها إلا وكنت أطرق بهدوء حذر على الباب. فتحت وابتسمت لي. قبّلتني وقادتني إلى المطبخ. يا ربي كم هو كبير. يسعنا أنا وأبي وأمي وبقية إخوتي. لا أدري كيف سبقتني عيني ونظرت من باب المطبخ باتجاه الحديقة، حيث شدّني صوت يدلّ على وجود أطفال. صوت لم يدع لي فرصة لأخجل أو أتردد فالتفتُّ مباشرة ورأيت طفلي الست. ليس في بيتنا حديقة وليس لنا مثل هذه الثياب. شاهدت الفرق بين ثيابنا. وبشكل غريزي قصرت قامتي وتضاءلتُ. تضاءلت أكثر عندما كان أحد الطفلين ممددا في أرجوحته تحت الشجر ورأيت في يده كرة حمراء متوردة لكنه قريبها من فمه ويقضم منها قليلا وهو يتابع (مرجحته). تحرك في داخلي الشيء نفسه الذي تحرك عندما رأيت صدر الست أمه ولكن هذه المرة تحركت معدتي وسال لعابي على كرة حمراء هي تفاحة كبيرة لا شكّ... كيف كان طعم التفاحة تلك؟ ما كان شكل بذورها؟ تفاحة صدر الست ليس لها بذور... وانقهرت وانكسرت بعيني دمعتان فسالتا خفيتين... مسحتهما وأحسست وجهي صغر حتى أصبح بذرة تفاحة... وكبر رأسي حتى صار كبيرا بحجم الكون أي بحجم التفاحة... رأسي والتفاحة توأمان. لكن التفاحة في يد الطفل كبرت. نعم هي تنتفخ ببطءٍ. رأسي صار أصغر منها. جسدي تبع رأسي فصغر... رأيت في أثناء ذلك أبي في المقهى يراقب عربة بائع التفاح الأحمر اللامع وهو يتجاهلها وتقرصه معدته... التفاحة في يد الصغير ما زالت تكبر من خلف دموعي... في الليل رأيت النجوم نقاطا حمراء لامعة كالتفاحات المتكاثرة. يدي تمسك بتفاحة السماء. بتفاحة الست. بتفاحة الصغير. لكن تفاحة الصغير كانت أكبر تفاحة في العالم...
الآن كبرت وامتلأت بملايين الليرات والتفاحات... كبرت وتفاحة الصغير تسبقني وتكبر أكثر مني. كم من التفاح أكلت الآن؟ التهمت أصنافاً منه ما كانت الست تعرفها. لكن تفاحة الصغير أكبر من كل تفاحات العالم. اشتريت مزارع خصصتها للتفاح فقط. قررت اغتيال التفاحة القديمة. وكلما أكلت واحدة تذكرتُ ذلك الشيء القديم الذي تحرك عندما فوجئت الست بي وصدرها مكشوف. الآن ملأت سريري بعشرات التفاحات التي تشبه – وأجمل – من تفاحة الصدر... أحاول استعادة الشيء الذي تحرك بالطريقة نفسها والطعم نفسه والمذاق الغامض المر الحلو نفسه، لكني ضيعته. لقد لمع ذلك الشيء مرة واحدة وانتهى... وصار نسياناً في رف الذاكرة... أحيانا أشعر بالنقمة على كل التفاح القديم وعلى طفل السّتّ وتفاحته اللعينة وما يرافقهما من أحاسيس مهينة... حتى وأنا أجلس في مزرعة من مزارع التفاح أغرق في أشكاله وألوانه. وعندما يزورني الأصدقاء والمعارف البعيدون والقريبون فأنادي على حارس المزرعة... يا عبدو املأ صندوقا من التفاح لكل صغير من الصغار...
16/أيار/1993
|