تفضلي هذه القصة للشاعر والأديب السوري محمد علاء الدين عبد المولى وأرجو التمعن فيها جيدا والنقاش حولها إذا أمكن مع شكري وحبي:
الصّديقة
قصة محمد علاء الدين عبد المولى
صديقتي أكره الموت كثيراً وأخاف منه...عندما دخلتُ المقهى كانت صديقتي تنتظرني. على طاولتها فنجان قهوة. وقد انزوى أمامها على الطاولة دفترٌ عرفت من النظرة الأولى أنه دفتر أشعارها. حاولت صديقتي في اللقاء الماضي طمأنتي أن الموت عاديّ ويجب عدم الانسياق وراء المخاوف عندما نفكر به. لكن مع ذلك لم يصل الأمر إلى حدّ اقتناعي بما تقوله ولا إلى انتزاع المخاوف منه. بل على العكس صار الخوف له أشكال مختلفة على مدار الساعة. صافحتها وضغطت على يدها وجلستُ. أجلستُ الدنيا معي. خلعتُ غطاء الصمت وانسكبتُ أتحدّثُ...(سأشتم الكثيرين لأنهم يؤذونني ولم أفعل لهم شيئاً. يشهّرون بي لأني ما زلتُ قادراً على الحب وقول الشعر بجرأة ترعبهم)... (فنجان قهوة من فضلك). اصطدمت قدمي من تحت الطاولة بقدمها. أمر عاديٌّ. لو كنا وحدنا في مكان آخر لكنتُ أريتها ماذا يعني هذا... (منذ متى لم تكتب قصيدة حبّ؟) يا للأنثى العابرة العادية. تريد الخوض في شأنها عبر أسئلة تظنها تدل على ثقافتها... أليس سوى الحب موضوعا للكتابة لنسأل عنه؟ لماذا لم تسألني عن الموت في شعري مثلاً؟ لم أكتب في هذه الفترة إلا قصيدة واحدة (هل هي قصيدة أم نص نثري) اسمها (في الطريق إلى الذبحِ)... أريد أن أحارب هؤلاء. كنت أحسبهم ليسوا أعدائي. ولكنهم خلق هجين لا أطيق وجوده. (هل أنت بحاجة إلى أن تخسر الكتابة ونفسكَ؟ نحن نريدك معنا ولنا. لا تتورط)... كل النساء يرمين هذه الفكرة في وجه المبدع ليصطدن اهتمامه بهنّ. لستُ مباليا بشيء صدقيني. عليّ وعلى أعدائي... فنجان القهوة لم يأت مرة بشكل محترم في هذا المكان مع أن الذي يطلبه أنا. هذه كارثة. النادل أيضا من أعدائي. لأنه على الأقل لا يهتم بهندامه. صحيح ربما لا تبدو ملابسي فاخرة لكنها لا تسيء لمن ينظر فيها. خاصة أنها قد لا تبدو صالحة لصناعة موعد حبّ. ولكن متى كانت الملابس صالحة للحبّ؟... من قال إني أهرب منكِ؟ أقسم بذات النهد والأمّ ذات الورد ومن رمى عليّ ياسمين الوعد إنني لم أتهرّب منها. ولكنني أريد رؤيتها على مزاج مزاجي. قلت لها هل تريدينني منسجما؟ ردت (لا أريدك هادئا أبداً... ولكن صدقني عجزتُ منذ أتيت أن أضبط مشاعرك في نقطة محددة). أنا أعرف أي نقطة تريد ضبطي فيها هذه الصديقة التي تريد من كل لقاءاتنا أن أبتكر لها نظرات شهّاء على قد عيونها. هي لم تسمع من أحد على ما يبدو أنها ليست جميلة. وليس فيها من سحر الأنوثة سوى لمعان عينيها والبريق الدفين فيهما. فهل تقدّر الصديقة أنني لا يمكن أن أشتهي عينيها فقط؟ لا شك أني أشتهي التأمل فيهما. ولكنها حتماً ستعتقد أنها اكتشفت فشلي في محاورة عينيها بطريقة مختلفة. أنا لا أريد من عينيها سوى الصمت واللمعان والتساؤل وهذا ما يجعلها تحتار في أمرها. ماذا يريد بعينيّ هذا الأبله؟ وماذا أريد من سوى عينيها إلا إذا كنتٌ أبلها فعلاً؟ ماذا ستعلق إذا قلت لها (أشتهي عينيكِ)؟ ولكنها ستفاجئني أو ربما فاجأتني بالسؤال لماذا لا تنظر إليّ على الأقلّ؟ آه. فعلا أنا لا أنظر حتى في عينيها اللتين أشتهيهما. فنجان القهوة برد...وأنا ما زلت أبحث عن شيء يقرب بيننا مسافة ما تريده. ولكني سأعجز حتماً. لستِ من أشتهي تعريتها صدقيني ولستِ من سأعشق وأبكي على غيابها ومن حنيني لها. أمس عريتها فعلاً فصعقت بالترهل الذي يبدو على مساحة جسدها. وتلك الرائحة التي لا تغيرها. أسوأ عطر أو كريم لاأدري ما طبيعة هذه الرائحة التي تعجب بها... وهي تجعلني أنفر منها أكثر. هل ثمة شاعر قبلي أغراها بأنها فاتنة ومثيرة؟ ربما كما سمعتُ من أحدهم. لكنها صديقتي ولا أريد أن أحفر لها جحيما جسديا لا تليق بناره حتى ولا بعذابه ولا بلسعاته... كيف أوضح لها ذلك؟ هل تعرفين أنني أكره كل شيء يذكرني بالنهايات والخواتيم؟ كانت صديقتي تنظر بين الفترة والأخرى إلى ساعتها. هذا يعني أنها ستذهب بعد قليل. قالت لي حان موعدها مع طبيب الأعصاب. هل هو كمين آخر لتثير فيّ رغبة التعاطف معها وخوض الحديث عن أسباب وضعها النفسيّ المتأزّم؟ والاعتذار منها إذا كنتُ أنا سبب أزمتها؟ ولكن ما هي أزمتها؟ المضحك أنني فعلا صرت أقرأ في بعض كتب التحليل النفسي علّني ألقي عليها القبض متلبسة بالشذوذ النفسي. يبدو أني أنا الآن في أزمة. حيث اضطررت للمجيء إلى هنا دون أن أملك قرشا واحداً. لا يهم فأنا كائن لا جيوب له وإذا كان لي جيوب فإني أثقبها دائما حتى لا يتملكني الإحساس بأنه قد تبات في جيبي كمية من النقود أكثر من نهار واحد. في ذلك المساء دفعت لي الصديقة مبلغا من المال لتساعدني... عندها شعرتُ بأنها تقف موقف المستبدّة الرقيقة. أمسكت بيديها ولا مست أطراف أصابعها بشفاهي وقلت لها دعي صداقتنا خارج المال... كرهت فعلا وقوفها إلى جانبي... وتمنيت لو لم تعرف مأزقي الماديّ. الآن ستحاسب هي وستشعر بالنصر عليّ... يا رجل ماذا تقول؟ أي نصر؟ نحن أصدقاء جيبي وجيبك واحد... كم أمتلىء بالضجر من هذه الشعارات السياسية المسروقة من الاشتراكية... ستقول لي كذلك إنني قدرتك وأحببتك أكثر لأنك رفعت الكلفة بيننا. هذا ما تريده هي رفع الكلفة بعد أن رفعنا منسوب الحميمية المصطنعة من قبلي على الأقلّ. هي تفرح كلما حدث بيننا شيء يؤكد لها أن الحجاب بيننا يرتفع شيئا فشيئا. مع أن أي حجابٍ بين رجل وامرأة لا يرتفع إلا إذا نزلت الثيابُ. وقد أنزلنا الثياب دون رفع الحجاب. فأية معادلة خائبة أخرج بها كل فترة؟ ولكن متى حدث ذلك؟ هل تحت شجرة التين في الصيف الماضي؟ لقد شهدت علينا كل عناصر الطبيعة في حينها. حتى غبار الشجر يشهد معي. حتى الهواء العاصف المحمّل بغبار الكروم. لم نكن حينها نشرب قهوة. ولم أكن أخاف من الموت. كنت أناديه ليأتي بكامل عدته ويسحبني إلى أي مكان يشاء. لم أعد أنادي الموت. لماذا صرت أخافه؟ آه يا صديقتي. تحت شجرة التين العتيقة التي تذكرنا كان الزمن مختلفا. هل تشعرين الآن بالماء الخارج من حبات التين؟ كان ماء أبيض لزجاً. كان وحده قادراً على طرد الموت. الآن كل مياه العالم لا تقدر على تنظيف رأسي من أشباح الموت. لقد كثرت الجنازات في رأسي إلى حدّ صرت فيه أضطرب من يوم لا جنازة فيه. مع ذلك عندما يهبط الجسد علينا أن نخاف من الموت. حين أجلس مع امرأة جميلة علي أن أخاف من الموت. انتهاؤنا من القهوة يعني موتاً. حياتنا تعني موتاً كذلك. حتى فلسطين تعني موتاً. هل أسأت إليها بذكر فلسطين؟ لا يهمني مادامت اللفظة صارت مجرد لفظة... لملتُ أطرافي. نحّيت فنجان القهوة الفارغ جانباً. اتخذت وضعية القائم من لقاء حبّ. عليّ أن أوحي لها بذلك وإلا ستشعر بالخزي. وعندما ارتفعت قليلاً عن الكرسيّ رأيت ملامح صديقتي تتغير من خلف ستار من الضباب. ثم وقع دفتر الشعر الصغير من يدها إلى جانب حذائها. وقع قلبي وراءه. أردتُ أن أرفع الدفتر انحنيتُ تحت الطاولة... لكن ما هذا الحذاء؟ أين رأيته من قبل؟ إنه حذاء يشبه حذاء زوجتي أعرفه جيداً... مددت إليها الدفتر وأنا أفكر بالحذاء. مستحيل أن يكون مجرد تشابه موديل. فهو ليس وطنيّاً... تناولت الدفتر ثم ناولتني مائة ليرة...(حاسب وخلينا نمشي تأخرنا على الأولاد)...
شباط – 1993
|