ولا سبيل إلى الشك في صحة الأبيات . من هنا كان أن بعض المفسرين في العصر العباسي - وقد أخذت فكرة "الذبيح إسماعيل" تتغلغل في معتقد القوم - لما وقفوا على شعر الفرزدق في الموضوع ، أزعجهم قوله . ولما لم يمكنهم " تزييف" هذا في الشعر، جعلوا الفرزدق "يصحح" رأيه متأخرا ، فوضعوا على لسانه القول : "سمعت أبا هريرة يقول على منبر المدينة : الذبيح إسماعيل " (ابن قتيبة : الشعر والشعراء ، 296). ولا يخفى أن أبا هريرة توفي بالمدينة سنة 57 أو 58 أو 59 للهجرة (677-679)، أي قبل أن نظم الفرزدق قصيدتيه المذكورتين بما لا يقل عن خمسين سنة .
فلو كان صحيحا ما قيل من أنه سمع أبا هريرة يقول : "الذبيح إسماعيل" ، جاز السؤال : ولم لم يستفد من ذلك في شعره ، فظل على القول بأن الذبيح اسحق بعد ذلك بنصف قرن ؟
على أن ابن قتيبة كان من القائلين بأن "الذبيح إسحاق" (المعارف ، 1 .
وكذلك محمد بن سلام في تعليقه على بيت جرير في هجاء سراقة البارقي :
ولقد هممت بأن أدمدم بارقا فحفظت فيهم عمنا إسحاقا !قال ابن سلام : "يعني إسحاق الذبيح" . (طبقات الشعراء ، 107) . كذلك كان رأي ابن عبد ربه، وقد أورد حديثا في وفاة إبراهيم الخليل جاء فيه أن الذبيح إسحاق . قال : وفي بعض الحديث أن إبراهيم خليل الرحمن ، صلوات الله عليه ، كان من أغير الناس . فلما حضرته الوفاة ، دخل عليه ملك الموت في صورة رجل أنكره . فقال له : "من أدخلك داري ؟" قال : "الذي أسكنك فيها منذ كذا وكذا سنة !" قال : "من أنت؟" قال : "أنا ملك الموت . جئت لقبض روحك ."قال : "أ تاركي أنت حتى أودع ابني إسحاق ؟" قال : "نعم ." فأرسل إلى إسحاق . فلما أتاه ، أخبره . فتعلق إسحاق بأبيه إبراهيم . وجعل يتقطع عليه بكاء . فخرج عنهما ملك الموت . وقال : "يا رب ، ذبيحك إسحاق متعلق بخليلك ." فقال له الله : "قل له : إني قد أمهلتك ." ففعل . وانحل إسحاق عن أبيه . ودخل إبراهيم بيتا ينام فيه . فقبض ملك الموت روحه ، وهو نائم ." (العقد الفريد 440:2) .
وممن قالوا بكون الذبيح إسحاق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، على ما جاء في نقل النهروالي في كتاب "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص 37) . ولعل فكرة "الذبيح إسماعيل" لم تتقدم العصر العباسي، وفيه اشتدت المنافسة ، حتى العراك السافر ، بين العرب والفرس ومن ورائهم الشعوبية . فكان من متممات هذا العراك ، وقد استغل المناضلون من الفريقين القرآن ، والحديث ، والشعر ، وأيضاً استغلوا تاريخ الأنساب ومفاخر الجدود . وكان الساسانيون ينتسبون إلى إسحاق ، فكان طبيعيا أن ينوهوا به ؛ وأن يقوم الفرس جميعا ، وسائر الشعوبيين ، فيفخروا على العرب "بإسحاق بن إبراهيم ، وأنه لسارة ، وأن إسماعيل لأمة تسمى هاجر" (العقد 409:3) . وحق للعرب أن يفخروا بإسماعيل بكر إبراهيم ، وأن يصرفوا إليه فضيلة "الذبيح" المختار من الله فكان من ذلك أن قضية اسم الذبيح ، التي كانت ثانوية في نظر الأوائل ، بدليل إهمال القرآن التدقيق فيها ، وبدليل أن الغاية من الحادثة كانت بلاء إبراهيم وامتحان إيمانه ، وهل يقدم على التضحية بولده – ولا عبرة في أي كان ذلك الولد – في طاعة الله هذه القضية ، التي كانت ثانوية ، أول الأمر ،ثم غدت أساسية ، وافرة الخطر ، إذ أقيم منها أصل من أصول المفاخرة بين العرب والفرس ؛ فغدا مهما جدا أن نعرف أي جد من الجدين اختار الله للتضحية . وإذا بالعراك يغتذي بموضوع جديد ، فيشدد الحزب العربي في الاحتجاج لإسماعيل . ويستغرب الحزب الفارسي والشعوبي هذا القول المحدث . وأن في ما أورده المسعودي لتمثيلاً حيا لبعض مشاهد العراك في الموضوع الذي يهمنا .
قال المسعودي : وقد افتخر بعض أبناء الفرس بعد التسعين والمائتين (903) بجده إسحاق بن إبراهيم الخليل على ولد إسماعيل بأن الذبيح كان إسحاق دون إسماعيل . فقال في كلمة له : أيا بني هاجر ، أبنت لكم : ما هذه الكبرياء والعظمة ؟ ألم تكن في القديم أمكم لأمنا سارة الجمال أمه ؟ والملك فينا ، والأنبياء لنا إن تنكروا ذاك ، توجدوا ظلمه ، إسحاق كان الذبيح قد اجمع الناس عليه ؛ إلا ادعاء لمه ، حتى إذا ما محمد أظهر الدين ، وجلى بنوره الظلمة ، قلتم : "قريش !"، والفخر في الدين لا الأحساب ؛ إن كنتم بنيه ، فمه! (مروج الذهب 282:1)
فرد عليه ابن المعتز واتخذ الموضوع من ثم طابعاً قومياً ، فاشتد النقاش والجدل بين أرباب الحديث والمفسرين : بعضهم يميل إلي إسماعيل ، وبعضهم إلى اسحق . وكان من "الإسحاقيين" ، وبالإضافة إلى القدامى الذين لم يخطر على بالهم إمكان النزاع في هذا الموضوع ، ابن قتيبة ، والطبري . على أن الأكثرية، ابتداء من العصر العباسي ، كانت في حيز إسماعيل . وظل بعضهم على تردد بين الاثنين ، لا يجزمون ، كما فعل الجاحظ في الكلام على الطاعة والمطاوعة ، إذ قال : "وقد أمر الله تعالى إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، بذبح إسحاق أو إسماعيل ، عليهما الصلاة والسلام . فأطاع الوالد ، وطاوع الولد " (الحيوان 163:1)، وذلك حتى القرن السادس عشر كما ينتج من تفسير الجلالين الآية 107 من سورة "الصافات" : "وفديناه بذبح عظيم" قال : "وفديناه" ، أي المأمور بذبحه ، وهو إسمعيل أو إسحق . قولان". على أن الأكثرية أصبحت في حيز إسماعيل على عهد النووي، قال في كتابه "التهذيب" :اختلف العلماء ، رحمهم الله ، في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام ، والأكثرون على أنه إسماعيل (عم