متابعة لدفع الشبهات المثارة حول القرآن الكريم، نقف اليوم مع شبهة تمسك بها بعض الجهلة من النصارى وغيرهم، وحاصلها الادعاء بأن القرآن الكريم قد اقتبس من شعر امرىء القيس عدة فقرات منه، وضمنها في آياته وسوره، ولم يحصل هذا الأمر في آية أو آيتين، بل هي عدة آيات كما يزعمون .
وقد استدل هؤلاء بما أورده
المناوي في كتابه ( فيض القدير شرح الجامع الصغير ) [ 2 / 187 ] ، حيث قال ما نصه: " وقد تكلم امرؤ القيس بالقرآن قبل أن ينزل، فقال:
يتمنى المرء في الصيف الشتاء = حتى إذا جاء الشتاء أنكره
فهو لا يرضى بحال واحد = قتل الإنسان ما أكفره
وقال:
اقتربت الساعة وانشق القمر = من غزال صاد قلبي ونفر
وقال:
إذا زلزلت الأرض زلزالها = وأخرجت الأرض أثقالها
تقوم الأنام على رسلها = ليوم الحساب ترى حالها
يحاسبها ملك عادل = فإما عليها وإما لها " ا.هـ
وقد أورد بعضهم شيئا من الأبيات السابقة بألفاظ مختلفة، فقال بعضهم إن امرأ القيس قال:
دنت الساعة وانشق القمر = غزال صاد قلبي ونفر
مر يوم العيد بي في زينة = فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك = فر عني كهشيم المحتظر
وزاد بعضهم فقال:
وإذا ما غاب عني ساع = كانت الساعة أدهى وأمر
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {
قتل الإنسان ما أكفره } وقوله تعالى: {
اقتربت الساعة وانشق القمر } وقوله تعالى: {
إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها } وقوله تعالى: {
إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر } وقوله تعالى: {
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } وقوله تعالى: {
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } .
وهذه الشبهة منقوضة بأكثر من عشرين وجهًا، وبيان ذلك فيما يلي:
الوجه الأول: أن هذه الأبيات ليس لها وجود في كتب اللغة والأدب، وقد بحثنا في عشرات من كتب البلاغة والأدب واللغة والشعر المتقدمة، ولم يذكر أحد شيئا من الأبيات السابقة أو جزءًا منها .
الوجه الثاني: أنه لا توجد هذه الأبيات في ديوان امرىء القيس ، على اختلاف طبعاته، ونسخه ورواياته، ولو كانت إحدى الأبيات السابقة صحيحة النسبة إليه أو حتى كاذبة لذكرت في إحدى دواوينه .
الوجه الثالث: أن أي متخصص وباحث في الأدب العربي، وشعر امرئ القيس على وجه الخصوص يعلم أن شعر امرئ القيس قد وجد عناية خاصة، وتضافرت جهود القدماء والمحدثين على جمعه وروايته ونشره، وهناك العديد من النسخ المشهورة لديوانه كنسخة الأعلم الشنتمري ، ونسخة الطوسي ، ونسخة السكري ، ونسخة البطليوسي ، ونسخة ابن النحاس وغيرها، ولا يوجد أي ذكر لهذه الأبيات في هذه النسخ، لا من قريب ولا من بعيد، فهل كان هؤلاء أعلم بشعر امرئ القيس ممن عنوا بجمعه وتمحصيه ونقده .
الوجه الرابع: أنه حتى الدراسات المعاصرة التي عنيت بشعر امرئ القيس وديوانه، وما نسب إليه من ذلك، لم يذكر أحد منهم شيئاً من هذه الأبيات لا على أنها من قوله، ولا على أنها مما نحل عليه – أي نسب إليه وليس هو من قوله – ومنها دراسة للأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في أكثر من 500 صفحة حول شعر امرئ القيس ، وقد ذكر فيه ما صحت نسبته إليه وما لم يصح، وما نحل عليه ومن نحله، ولم يذكر مع ذلك بيتاً واحداً من هذه الأبيات السابقة .
الوجه الخامس: أن امرأ القيس وغيره من الشعراء قد نحلت عليهم العديد من القصائد فضلا عن الأبيات، بل نحل على بعضهم قصص كاملة لا زمام لها ولا خطام، وقضية نحل الشعر ونسبته لقدماء الشعراء أمر معروف لا يستطيع أحد إنكاره، وقد عرف عن حماد الراوية و خلف الأحمر أنهم كانوا يكتبون الشعر ثم ينسبوه إلى من سبقهم من كبار الشعراء، وقد ذكر ابن عبد ربه – وهو من المتقدمين توفي سنة 328 هـ - في كتابه ( العقد الفريد ) في باب عقده لرواة الشعر، قال: " وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده....وكان خلف مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن، وينَحله الشعراء، ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً وهو:
إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع = لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ
لـ
خلَف الأحمر ، وإنه نَحله إياه، وكذلك كان يفعل
حمّاد الرواية، يَخلط الشعر القديم بأبيات له، قال
حماد :
ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر، قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر
الأعشى ؟ فقال:
يتبع ...