وحق للعرب أن يفخروا بإسماعيل بكر إبراهيم ، وأن يصرفوا إليه فضيلة " الذبيح " المختار من الله فكان من ذلك أن قضية اسم الذبيح ، التي كانت ثانوية في نظر الأوائل ، بدليل إهمال القرآن التدقيق فيها ، وبدليل أن الغاية من الحادثة كانت بلاء إبراهيم وامتحان إيمانه ، وهل يقدم على التضحية بولده – ولا عبرة في أي كان ذلك الولد – في طاعة الله هذه القضية ، التي كانت ثانوية ، أول الأمر ، ثم غدت أساسية ، وافرة الخطر ، إذ أقيم منها أصل من أصول المفاخرة بين العرب والفرس ؛ فغداً مهما جداً أن نعرف أي جد من الجدين اختار الله للتضحية . وإذا بالعراك يغتذي بموضوع جديد ، فيشدد الحزب العربي في الاحتجاج لإسماعيل . ويستغرب الحزب الفارسي والشعوبي هذا القول المحدث . وأن في ما أورده المسعودي لتمثيلاً حياً لبعض مشاهد العراك في الموضوع الذي يهمنا .
قال المسعودي : وقد افتخر بعض أبناء الفرس بعد التسعين والمائتين (903) بجده إسحاق بن إبراهيم الخليل على ولد إسماعيل بأن الذبيح كان إسحاق دون إسماعيل .
فقال في كلمة له : أياً بني هاجر ، أبنت لكم : ما هذه الكبرياء والعظمة ؟ ألم تكن في القديم أمكم لأمنا سارة الجمال أمه ؟ والملك فينا ، والأنبياء لنا إن تنكروا ذاك ، توجدوا ظلمه ، إسحاق كان الذبيح قد اجمع الناس عليه ؛ إلا ادعاء لمه ، حتى إذا ما محمد أظهر الدين ، وجلى بنوره الظلمة ، قلتم : " قريش ! "، والفخر في الدين لا الأحساب ؛ إن كنتم بنيه ، فمه ! (مروج الذهب 282:1)
فرد عليه ابن المعتز واتخذ الموضوع من ثم طابعاً قومياً ، فاشتد النقاش والجدل بين أرباب الحديث والمفسرين : بعضهم يميل إلي إسماعيل ، وبعضهم إلى اسحق . وكان من " الإسحاقيين " ، وبالإضافة إلى القدامى الذين لم يخطر على بالهم إمكان النزاع في هذا الموضوع ، ابن قتيبة ، والطبري .
على أن الأكثرية ، ابتداء من العصر العباسي ، كانت في حيز إسماعيل . وظل بعضهم على تردد بين الاثنين ، لا يجزمون ، كما فعل الجاحظ في الكلام على الطاعة والمطاوعة ، إذ قال : " وقد أمر الله تعالى إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، بذبح إسحاق أو إسماعيل ، عليهما الصلاة والسلام . فأطاع الوالد ، وطاوع الولد " (الحيوان 163:1)
وذلك حتى القرن السادس عشر كما ينتج من تفسير الجلالين الآية 107 من سورة " الصافات " : " وفديناه بذبح عظيم " قال : " وفديناه " ، أي المأمور بذبحه ، وهو إسماعيل أو إسحق . قولان ".
على أن الأكثرية أصبحت في حيز إسماعيل على عهد النووي ، قال في كتابه " التهذيب " : اختلف العلماء ، رحمهم الله ، في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام ، والأكثرون على أنه إسماعيل (عم) "
أما قضية الذبيح من هو؟ إسماعيل أم إسحاق ؟ فلنتركها للكتاب المسلمين فان لهم فيها رأي ولنضف كلاماً لابن خلدون برهن فيه أن الذبيح إسحاق ، مستنداً إلى فضيلة البشارة في تعيين الولد المختار من الله . قال : " الراجح أنه اسحق لأن نص القرآن يقتضي أن الذبيح هو المبشر به ، ولم يبشر إبراهيم بولد ، إلا من زوجته سارة ، وإن البشارة كانت قبل هاجر ، أي قبل دخوله مصر . فإن سارة أخذت هاجر من مصر ، وقدمتها لإبراهيم ، بعد البشارة بعشر سنين . فالمبشر به ، قبل ذلك ، هو ابن سارة ، فهو الذبيح بهذه الدلالة القاطعة . "
أن الذبيح هو إسحاق قال الحاكم في ج 2 ص 555 ثم روى الحاكم عدة رواياتٍ في أن الذبيح هو إسحاق ، وأنه هو الذي يشفع للموحدين ! ولم يذكر فيها شيئاً عن شفاعة نبينا صلى الله عليه وعلي آله وسلم وصحح بعضها أيضاً على شرط الشيخين ! قال في ج 2 ص 557، وفي ص 559
حدثنا إسماعيل بن الفضل بن محمد الشعراني ، ثنا جدي ، ثنا سنيد بن داود ، ثنا حجاج بن محمد ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الاَحوص ، عن عبد الله قال عبد الله قال : الذبيح إسحاق . هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : لما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح إسحاق أخذ بيده . فذكره بطوله . . . قال الحاكم : وقد ذكره الواقدي بأسانيده، وهذا القول عن أبي هريرة ، وعبد الله بن سلام ، وعمير بن قتادة الليثي ، وعثمان بن عفان ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، والله أعلم عن وهب بن منبه قال : حديث إسحاق حين أمر الله إبراهيم أن يذبحه : وهب الله لإبراهيم إسحاق في الليلة التي فارقته الملائكة ، فلما كان ابن سبع أوحى الله إلى إبراهيم أن يذبحه ويجعله قرباناً ، وكان القربان يومئذٍ يتقبل ويرفع ، فكتم إبراهيم ذلك إسحاق وجميع الناس وأسرَّه إلى خليل له ، فقال ألعازر الصديق وهو أول من آمن بإبراهيم وقوله ، فقال له الصديق : إن الله لا يبتلي بمثل هذا مثلك ولكنه يريد أن يجربك ويختبرك ، فلا تسوءن بالله ظنك ، فإن الله يجعلك للناس إماماً ولا حول ولا قوة لإبراهيم وإسحاق إلا بالله الرحمن الرحيم . فذكر وهب حديثا طويلاً إلى أن قال وهب : وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لقد سبق إسحاق الناس إلى دعوة ما سبقها إليه أحد ! ويقومن يوم القيامة فليشفعن لأهل هذه الدعوة ، وأقبل الله على إبراهيم في ذلك المقام فقال : اسمع مني يا إبراهيم أصدق الصادقين . وقال لإسحاق : اسمع مني يا أصبر الصابرين ، فإني قد ابتليتكما اليوم ببلاءٍ عظيمٍ لم أبتل به أحداً من خلقي ، ابتليتك يا إبراهيم بالحريق فصبر صبراً لم يصبر مثله أحد من العالمين ، وابتليتك بالجهاد فيَّ وأنت وحيدٌ وضعيفٌ فصدقت وصبرت صبراً وصدقاً لم يصدق مثله أحد من العالمين ، وابتليتك يا إسحاق بالذبح فلم تبخل بنفسك ولم تعظم ذلك في طاعة أبيك ، ورأيت ذلك هنيئاً صغيراً في الله كما يرجو من أحسن ثوابه ويسر به حسن لقائه ، وإني أعاهدكما اليوم عهداً لا احبسن به : أما أنت يا إبراهيم فقد وجبت لك الجنة عليَّ فأنت خليلي من بين أهل الأرض دون رجال العالمين ، وهي فضيلة لم ينلها أحد قبلك ولا أحد بعدك ، فخرَّ إبراهيم ساجداً تعظيماً لما سمع من قول الله متشكراً لله . وأما أنت يا إسحاق فتمنَّ عليَّ بما شئت ، وسلني واحتكم ، آوتك سؤلك . قال : أسألك يا إلَهي أن تصطفيني لنفسك ، وأن تشفعني في عبادك الموحدين ، فلا يلقاك عبدٌ لا يشرك بك شيئاً إلا أجرته من النار . قال له ربه : أوجبت لك ما سألت وضمنت لك ولأبيك ما وعدتكما على نفسي ، وعداً لا أخلفه ، وعهداً لا أحبسن به ، وعطاء هنيئاً ليس بمردود . انتهى
يبقى السؤال : من أين جاء هذان الاِتجاهان في المسألة ! أما البخاري فقد تهرب في صحيحه من تعيين الذبيح ولكنه اختار في تاريخه أنه إسحاق وليس إسماعيل رغم وجود عدة روايات صحيحة على شرطه تقول إنه إسماعيل ومن البعيد جداً أنه لم يرها !
وقال عبد الرزاق في تفسيره ج 2 ص 123 عن الزهري عن القاسم بن محمد في قوله : إني أرى في المنام أني أذبحك ، قال : اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة يحدث كعباً عن النبي (ص) وجعل كعب يحدث أبا هريرة عن الكتب ! !
فقال : أبو هريرة قال النبي (ص) : إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فقال له كعب : أنت سمعت هذا من رسول الله ! قال نعم . قال كعب : فداه أبي وأمي أفلا أخبرك عن إبراهيم إنه لما رأى ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهما أبدا فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك قالت : غداً به لبعض حاجته فقال : إنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب ليذبحه . قالت : ولم يذبحه ! قال : يزعم أن ربه أمره بذلك ! قالت : فقد أحسن أن يطيع ربه في ذلك فخرج الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك قال لحاجته قال إنما يذهب بك ليذبحك ! قال لم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره بذلك ! قال والله لئن كان أمره بذلك ليفعلن . قال فتركه ولحق بإبراهيم فقال: أين غدوت بابنك فقال لحاجة قال : فإنك لم تغد به لحاجة إنما غدوت لتذبحنه ! قال ولم أذبحه قال تزعم أن ربك أمرك بذلك ! قال : فوالله لئن كان أمرني بذلك لأفعلن . قال : فتركه ويئس أن يطاع. انتهى
وروى الطبري في تاريخه ج 1 ص 187 رواية معاوية وعدة روايات عن كعب الأحبار في أن الذبيح إسحاق ، ومنها رواية عبد الرزاق بألفاظ مشابهة وزاد فيها : فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسلم إسحاق أعفاه الله وفداه بذبح عظيم قال إبراهيم لإسحاق قم أي بني فإن الله قد أعفاك فأوحى الله إلى إسحاق إني أعطيك دعوة أستجيب لك فيها قال إسحاق : اللهم فإني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنة . انتهى .
وبذلك يقول لنا كعب : إن الذبيح هو إسحاق جد اليهود وليس جد العرب ، ثم إنكم تزعمون أن محمداً يشفع في الموحدين ، وقد سبقه إلى ذلك إسحاق فلم يبق معنى لشفاعة نبيكم ! وقال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 282
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن كعب رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة : ألا أخبرك عن إسحاق قال بلى قال : لما رأى إبراهيم أن يذبح إسحاق . . . وذكر شفاعة إسحاق للموحدين بنحو رواية الطبري المتقدمة ! الدر المنثور ج 5 ص 282
------------------------------------
فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: صَحِيحٌ، يَامُعَلِّمُ! حَسَبَ الْحَقِّ تَكَلَّمْتَ. فَإِنَّ اللهَ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ.
- انجيل مرقس 12:32
موقع مسيحيات فقط
http://www.answer-me-muslims.com/