ولكنهم علي أيَّة حال كانوا تلاميذه وانضموا إلي المسيحيّة بعد قيامته، هؤلاء كانوا واقفين دون خوف وشاهدوا كل شئ وسمعوا كل ما قيل بكل دقة وقصُّوه علي بقيّة التلاميذ. وهذه الحقائق تؤكِّد بصورة جازمة أنَّ المصلوب لم يكن سوي شخص السيد المسيح. كما أنَّ كثيرين من الجماهير التي كانت محتشدة حول الصليب وشاهدوا ما حدث وسمعوا ما قاله السيد ندموا لأنهم وافقوا رؤساء الكهنة على صلبه " وَكُلُّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ. " ( لو23/48 ) ، حزنًا وندمًا وأسفًا.
10 - دفن جسد المسيح وشهادة يوسف الرامي ونيقوديموس :
أ - التأكد من موته وطعن جنبه بحربة :
حسب عادة الرومان كان يجب أنْ يظلّ المصلوبين علي الصليب حتي يموتوا ويتعفّنوا أو يدفنهم أحد. ولكن حسب الناموس اليهودي كان يجب أنْ لا تبيت جثث المصلوبين علي الصليب، ونظرًا لأنَّ عمليّة الصلب تمّت يوم الجمعة وكان يوم استعداد واليوم التالي هو يوم السبت المقدّس عند اليهود وكان هذا السبت بالذات هو بداية عيد الفصح العظيم والذي كان يوم الجمعة استعدادًا له لذا كان يجب أنْ يموت المصلوبين ويُدفنوا قبل غروب شمس يوم الجمعة؛ " وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ إِذْ كَانَ الاِسْتِعْدَادُ - أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ - " ( مر15/42 ). وكانت عمليّة كسر سيقان المصلوبين عمليّة قانونيّة في القانون الروماني تسمى " بضربة الرحمة"، وكذلك كان الطعن بالحربة، وكانت هذه العمليّة تتمّ بضرب الساقين بمطرقة خشبيّة ثقيلة، وبرغم فظاعة هذه الضربة كانوا يرون أنَّها تُعجّل بموت المصلوبين وتُنهي عذابهم علي الصليب " فَأَتَى الْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ الأَوَّلِ وَالآخَرِ الْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. " ( يو19/32-33 )، لقد مات المسيح في زمن قياسي ولم يبقَ علي الصليب إلا ستّ ساعات فقط فلمَّا أتي العسكر إليه ليكسروا ساقيه ليعجلوا بموته وجدوه قد مات ، نعم مات هكذا سريعًا لسببين
ــــــــــ
- 152 –
الأول هو أنَّه قَبِلَ الموت بإرادته واَسْلَم روحه للآب بإرادته كما سبق أن أكد " لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. " ( يو10/18 ) ، والثاني راجع لما عاناه طوال حوالي 20 ساعة متواصلة من آلام نفسيّة وجسديّة، خاصّة وأنَّه قُبض عليه وحُوكم ليلاً وأُهين إلي جانب ما لاقاه من ضربٍ ولطمٍ ولكمٍ والذي انتهي بجلده جلدات وحشيّة قطعت لحمه في معظم أجزاء جسده إضافة إلي إكليل الشوك الذي إنغرست أشواكه في رأسه. وبرغم أنَّ الجنود تأكدوا تمامًا من موته بخبرتهم إلاَّ أنَّ واحد منهم أراد أنْ يكون مطمئن تمامًا إلي موته، خاصَّة وأنَّ الأمر بالتعجيل بموت المصلوبين كان صادرًا من الوالي الروماني، كما أنَّ المصلوب ذاته كان ذا أهميّة قصوي لكل من اليهود والوالي، لذا طعن جنبه بحربة اخترقت القلب ومزقته تمامًا " لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. " ( يو19/34 )، كان الجندي مدربًا علي هذه الطعنة. والتي يقول العلماء أنَّها كانت تُطعن من اليمين إلي اليسار لكي تخترق القلب وتمزّقه، وعلي إثر هذه الضربة التي اخترقت القلب ومزقته " خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. " من جنبه بالرغم من أنَّه كان قد مات، وهذه علامة أخري تؤكِّد لنا أنَّه بالرغم من أنَّ الجسد كان ميتًا إلاَّ أنَّه لم ير فسادًا ؛ يقول العلامة أوريجانوس (185-254م) : " في الأجساد الميتة الأخري يتجمد الدم ولا يخرج منه ماء نقي. ولكننا نجد العجب في حالة الجسد الميت ليسوع فإنَّه حتي بعد الموت كان في الجسد دم وماء، خرجا من جنبه "
(2
، ويقول وستكوت العالم وأسقف كرسي درهام بإنجلترا :
" نحن نؤمن أنَّه من اللحظة التي مات فيها المسيح بدأ جسد الرب يأخذ استعداده بالتغيرات التي انتهت بإستعلان القيامة. وأنَّ خروج دم وماء من جنبه يلزم أنْ يُعتبر كعلامة حياة من موت "
(29) .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
(2
Ag. Celsus 2:36.
(29) شرح إنجيل القديس يوحنا، الأب متى المسكين جـ 1226:2
ــــــــــ
- 153 –
والعجيب أنَّ ما طلبه رؤساء اليهود هنا صار شهادة عليهم وعلي من يزعمون الآن أنَّ المسيح لم يمتْ علي الصليب، لأنَّه بإصرارهم علي إنهاء حياة المصلوبين بكسر سيقانهم كذلك طعن الجندي المدرب جيدًا لجنب المسيح بحربة مدببة اخترقت القلب ومزّقته فقد حرموا من موقف كان يمكن أنْ يستغلوه ويزعموا، بعد قيامته، مع القائلين الآن، أنَّ المسيح لم يمتْ علي الصليب وإنما كان قد أغمي عليه فقط ثم فاق من غيبوبته في القبر، ولكن بعدما حدث وتأكَّد بصورة قاطعة لا لبس فيها أنَّ المسيح قد مات حقًا علي الصليب فقد حرم كلاهما من هذه الفرصة التي تناسب خبثهم المعهود وأفكارهم الضالة، حيث إنَّهما، كليهما، يقولون ما لا يؤمنون به لمجرد التشكيك.
ب – الدفن :
بعد ذلك جاء يوسف الرامي وطلب من بيلاطس الإذن بدفن جسد المسيح، وهذا الرجل كان غنيًا ومشيرُا وشريفًا وصالحًا بارًا وعضوًا في السنهدرين، كما كان أيضًا منتظرًا لملكوت السموات وتلميذًا خفيًّا للسيّد المسيح ومن ثمَّ فلم يكن موافقًا علي القبض علي المسيح ومحاكمته وصلبه، يقول الكتاب : " وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ. " ( مت27/57 )، " جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ مُشِيرٌ شَرِيفٌ وَكَانَ هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ اللَّهِ " ( مر15/43 )، " وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً - هَذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللهِ. " ( لو23/50-51 )، " ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ وَلَكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ " ( يو19/38 ) . هذا الرجل الذي كان تلميذًا للسيد المسيح ولكن لم يعلنْ الحقيقة مثله مثل المئات من رؤساء اليهود، فقد " آمَنَ بِهِ (المسيح) ذَلِكَ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ " ( يو12/42 )، هذا الرجل تجاسر عند موته " فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. " ( مر15/43 ).
ــــــــــ
- 154 –
كان لابد أنْ يحصل علي إذن الوالي التي كانت الأمور في يده فدخل علي بيلاطس الوالي الروماني، بحكم موقعه كأحد رؤساء اليهود وكأحد أثريائهم " وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ " ، إذ أنَّه بعدما شاهد بنفسه ما حدث من عجائب ومعجزات حدثت عند صلب المسيح وموته زال عنه كل خوف وعمل ما لم يستطيع تلاميذ المسيح عمله غير عابيء بما سيُقال عنه أو يُتخذ ضده، فقد كان الله قد أعدَّه لهذه المهمّة لأنَّه لو لم يفعل ذلك لكان اليهود قد دفنوا السيد في إحدي المقبرتَين العامّتَين وكان طلب يوسف الرامي هذا سبب تعجّب واندهاش من الوالي فلما تأكد من قائد المئة أنَّه مات هكذا سريعًا وعلي غير المعتاد أمر " فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ. " ( مت27/58 )، " فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: «هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ. " ( مر 15/44-45 ) دون تردّد.
" وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً. " ( يو19/39 )، وكان نيقوديموس هذا " مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ 000 رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. " ( يو3/1 )، وكان من المؤمنين بيسوع المسيح وسبق له أنْ قابله ليلاً " هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ». " ( يو3/2 )، وإستفسر منه عن أمورٍ روحيّة، كما سبق له أنْ دافع عنه في مجلس السنهدرين الذي كان عضوًا فيه عندما أدانوا السيد دون أنْ يستمعوا له فقال لهم، " وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟ " ( يو7/50-51 )، ولكنّه صمت أمام إرهابهم.
هذا الرجل ظهر علي مسرح الأحداث دون خوف أو تردّد وقام بعملية تحنيط الجسد ودهنه بالأطياب، فقد توزّعت الأدوار بينه وبين يوسف الرامي الذي حصل علي إذن الوالي بدفن الجسد وإشترى كفنًا من الكتان الفاخر وأنزل الجسد عن الصليب ( مر15/46 ) بينما ذهب هو إلي المدينة وإشترى كميّة كبيرة من الأطياب غالية الثمن جدًا " مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا. " ( يو19/39-40 ) .
ــــــــــ
- 155 –
فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: صَحِيحٌ، يَامُعَلِّمُ! حَسَبَ الْحَقِّ تَكَلَّمْتَ. فَإِنَّ اللهَ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ.
- انجيل مرقس 12:32
موقع مسيحيات فقط
http://www.answer-me-muslims.com/