توخياً للعدالة والانصاف، لا يمكن محاكمة سلوك الرئيس بشار الأسد بوصفه ينم عن قلة حنكة في تدبير الأمور. مثلما عرف عن والده. والحق ان الاسد الابن ورث من والده امبراطورية نخرة، لا ينفع معها عنف الصولجان وسطوته. توفي الأسد الأب في حزيران من العام 2000، بعد ايام قليلة على تحرير الجنوب اللبناني. وربما يكون من المفيد ان يستعيد المرء وقائع تلك الايام التي سبقت تحرر الجنوب اللبناني وجلاء الجيش الاسرائيلي عنه. ففي تلك الأيام بدت السياسة السورية مربكة حيال قدرتها على تثمير هذا الانتصار. انه نصر معنوي من دون شك، لكنه ايضاً كان يعني من دون اي لبس قطع الاصبع السورية التي تعبث بأمن اسرائيل. استمر الارتباك اياماً واعلن الوزير فاروق الشرع بعدها من مدريد ان الانسحاب هو انتصار، فانفكت عقدة الالسن في لبنان التي ارتبكت امام فخ الانسحاب الاسرائيلي كما كانت تدعوه الصحافة الموالية لسوريا في لبنان. قبل هذا الفخ كان ايضاً ثمة فخ دعي جزين اولاً، وكان يقضي بانسحاب اسرائيلي من منطقة جزين على ان يحل الجيش اللبناني محل قوات الاحتلال المنسحبة. لكن الرفض السوري كان قاطعاً. ولم يكن ثمة ما يجعل الاتفاق ممكناً على هذا المستوى. على كل حال خرجت اسرائيل من لبنان مرغمة، لكن المدقق في وقائع ما جرى في ما بعد، لبنانياً وسورياً، لا بد وان يسأل سؤالاً معبراً: هل انتصرت سوريا والعرب من خلفها على اسرائيل في تلك الحرب؟ وما الذي يجعل هذا الانجاز اللبناني الكبير صعباً على تثميره لبنانياً اليوم؟
الأرجح ان اسرائيل خرجت من لبنان، لأنها في معنى من المعاني رأت في خروجها وترسيم الحدود بينها وبين لبنان بإشراف الامم المتحدة، نزعاً للذريعة التي تطال سوريا فيها اسرائيل، وتعض على اصابعها. ومنذ ذلك الانسحاب، لم يستطع حزب الله اللبناني ان يعيد فتح او تنظيم اشتباك حقيقي بين قواته والقوات الاسرائيلية. استمر الوضع متوتراً على الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، لكن ما اختلف بين الحدود المتوترة والمقاومة الفاعلة، ان اسرائيل لم تعد مهددة يويماً بالقصف والعمليات التي كانت تجعل الملف اللبناني ساخناً على اصابعها، وغير قاردة على الامساك به كما لو انه خارج للتو من الماء الغالية. ومنذ ذلك الحين تغير منطق الرد الإسرائيلي على حزب الله اللبناني، وتحول الرد على نحو مباشر إلى الداخل السوري، الامر الذي جعل سوريا مكتوفة الأيدي.
تسلم بشار الاسد سدة الرئاسة في سوريا، ولم يكن يملك بعد غير ظفر صغير في مزارع شبعا، المختلف على ملكيتها بين لبنان وسوريا اليوم، يستطيع من خلاله ان يلعب خارج حدوده. كانت تركيا قد اقفلت كل المنافذ، اما العراق فكان من الشؤون الاميركية الحصرية، قبل اجتياحه، التي لا تقبل شركاء. والفلسطينيون كانوا يومها يخوضون اكثر انتفاضاتهم كلفة ضد الاحتلال الاسرائيلي. مما افقد سوريا الذرائع كلها التي بررت ادوارها الخارجية. فلم يعد احد يستطيع اتهام ياسر عرفات بالتخاذل والخيانة، وهو المسجون في غرفة ويشاغب على العالم كله منها في رام الله. ولم تكن مزارع شبعا حجة كافية قانونياً وسياسياً لجعلها قفازاً تدخل المخالب السورية في طياته. ولم يطل الزمن بالولايات المتحدة الاميركية حتى نظمت هجومها العسكري على العراق. وبدا ان السلوك السوري حيال العراق والذي حكم سياسة الأسد الابن الخارجية طوال السنوات الثلاث الأخيرة اقل من ان يحقق دوراً سياسياًَ.
يمكن القول اليوم ان المجتمع الدولي، واميركا على رأسه، ظبطت سوريا متلبسة بالتخريب عليها في العراق. وسواء صح ذلك ام لم يصح، إلا ان ما يجدر بنا قوله ان سوريا تدفع ثمن هذه التهمة من كيسها كل يوم. لكنها ايضاً متهمة بالتخريب من دون اي دور سياسي او مصلحة. فلا يجادل احد ان للزرقاوي اجندته الخاصة في المقاومة، ولا يختلف اثنان على ان البعث العراقي ليس تابعاً للبعث السوري او ملحقاً به. والحق ان معظم دول الجوار العراقي لها ادوار، كبرت ام صغرت في العراق، من ايران والعلاقة مع الشيعة، إلى تركيا ووضع والمسألة الكردية، فالسعودية والتخوف من التدخل الإيراني والمد الشيعي، صولاً إلى الأردن واحياء مشروع الخلافة الهاشمية. وحدها سوريا لا تملك مشروعاً سياسياً في العراق، لكنها تدفع ثمن اتصالها بالإرهاب من غير ان تقبض في السياسة.
على المستوى الفلسطيني لا يحتاج الأمر إلى اثباتات كثيرة لنكتشف ضآلة الدور السوري في الساحة الفلسطينية، على المستوى السياسي, فياسر عرفات كان قد انتزع في زمن حصاره في المقاطعة امراً بالغ الاهمية يتعلق باستحالة ان ينوب عن الفلسطينيين ومن يمثلهم نائب من اي نوع في تقرير مصيرهم. كان الرجل محاصراً، ولم تفلح جهود الإدارة الاميركية الحثيثة في نزع هذه الصفة عنه، او جعل اي كان يستطيع النطق باسم الفلسطينيين، كبر شأنه في العالم العربي ام ضغر.
اما في لبنان فاستمر الوجود السوري ماثلاً وقوياً ومن دون منازع. لكنه ومنذ الانسحاب الإسرائيلي بدا فاقداً لمبرراته الشرعية. اولاً لجهة استحالة الحديث عن لبنان المتعاون مع اسرائيل والقاصر في ما يتعلق بموضوع الدفاع عن ارضه في وجه العدوان الإسرائيلي والمشكوك بعروبته. وثانياً لجهة فقدان سوريا سياقين مهمين يبرران بقاء جيشها في لبنان. السياق السياسي الذي حكمها في لبنان بعد اتفاق الطائف، وجعل الحديث عن وجودها مرتبطاً بجلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي. والسياق التعبوي الذي يجعل سوريا حاضرة في الصراع العربي الإسرائيلي. فمنذ الانسحاب الإسرائيلي لم تكف اقلام لبنانية عن تذكير سوريا بالجولان المحتل، وسؤالها عن السبب الذي لا تنظم فيه مقاومة كالتي اصلاها حزب الله والقوى الوطنية اللبنانية من قبله للاحتلال الاسرائيلي.
والحال لم يعد ثمة مسوغ او تبيرير شرعي يمكن للرئاسة السورية ان تسوقه في وجه الحملات التي تطالبها بإخراج جيشها من لبنان.
ورث بشار الأسد والحال هذه من والده، ما يشبه مزارع شبعا على طول خطوط الحدود السورية مع جيرانها. مزارع شبعا بمعنى انها قد تكون معها وقد تكون عليها. فالمقاومة العراقية، ليست مع سوريا بالتأكيد، وقد تكون عليها، حتى لو حققت انتصاراً بعيد المنال. ومزارع شبعا في لبنان، قد تصبح على سوريا ما ان يطالب لبنان باستعادة ملكيتها للعمل على تحريرها، وترسيم الحدود مع الاردن وضع خطاً فاصلاً وحاسماً للتدخل السوري في الشؤون الاردنية الداخلية. اما الملف التركي – الكردي فاصبح في عهدة تركيا برمته، ولم يبق لسوريا فيه إلا بعض المشكلات الداخلية التي يكثر الحديث عنها في هذه الآونة، والتي ظهرت إلى السطح في العام الماضي اثر انتفاضة الاكراد الشهيرة. على هذا ورث الأسد الابن امبراطورية خربة، من الداخل والخارج. كان الاسد الراحل قد استعان على الداخل الخرب بالخارج المضيء. لكن الاسد الابن دخل عالم السياسة في الوقت الذي بلغ انهيار الدور الخارجي لسوريا ذروته المقلقة.
حكم الاسد الابن من ارشيف والده طوال السنوات الخمس السابقة. كان يحكم بلداً تنهار مقومات دوره الذي ارساه الراحل، ولم يكن ثمة طريقة انسب من حكمه من الأرشيف.
ســــــــــــــــــوريا قلعة الصمود العربي
|