بعد وفاة ابن الاسد البكر الرائد باسل الأسد في حادث سيارة عام 1994، استدعي بشار الابن الثاني لحافظ الاسد إلى سوريا ليحل محل اخيه. كان بشار يومذاك يتابع تخصصه في طب العيون في بريطانيا. ولم يكن معروفاً عنه اي نشاط سياسي . ويقول بشار الأسد بعدما اصبح رئيساً للجمهورية العربية السورية، انه لم يكن يفكر اصلاً في اي دور عام: " حتى عام 1994 لم يكن يسمع أحد عن الشاب الذي كان في حدود الثلاثين، وأصبح في هذه الأثناء العقيد الركن بشار الاسد. ولم يعرف هو من قبل سوى الحياة في " قصر الرئاسة " فقد كان طفلاً في السادسة من عمره عندما اعتلى حافظ الأسد السلطة عام 1970؛ على رأس انقلاب عسكري أنهى سلسلة من الصراعات بين أجنحة حزب البعث العربي الاشتراكي، وقضى على البقية الباقية من الرفاق الحزبيين القدماء والقيادات التاريخية للحزب، سجنًا أو نفيًا، وقضى بشار سنوات طفولته في مدرسة "الحرية" الفرنسية في دمشق، ثم درس "طب العيون" في مستشفى تشـرين العسـكري في العاصمة السورية أيضًا، بين عامي 1988 و 1992، ورحل إلى لندن للتخصص.
وكان في منتصف فترة التخصص عندما مات أخوه باسل في حادث سيارة في عام 1994 فعاد إلى دمشق .
وبينما اتخذ إعداد باسل لخلافة أبيه في الرئاسة مجراه بصورة بطيئة اعتيادية نسبيًا، كان لا بد من إعداد بشار كبديل بصورة سريعة، فمنذ الأزمة الصحية الحادة التي أصابت الرئيس السوري عام 1983 لم تنقطع التكهنات عن حقيقة وضعه الصحي، وقد تضاعفت في بداية التسعينات بصورة ملحوظة". يمكن القول ان دخول بشار الأسد عالم السياسة تم في زمن كانت فيه سوريا في اوج مجدها. فيومذاك كانت العلاقة مع الإدارة الاميركية في قمة شهر عسلها، بعد اجتياح العراق الأول، عام 1990 ومشاركة القوات السورية الرمزية في الحرب لتحرير الكويت. الامر الذي عزاه المراقبون يومذاك إلى صفقة اميركية - سورية تم بموجبها اطلاق يد الاسد في لبنان، في مقابل دعم الأسد السياسة الاميركية في العراق ومنطقة الخليج عموماً. ومن ناحية ثانية كان المسار التفاوضي السوري - الإسرائيلي على مشارف تحقيق انجاز ما، بل وبدأت تتسرب في تلك الأثناء معلومات صحافية عن مناقشات اسرائيلية مستفيضة حول كيفية تسليم الجولان إلى سوريا، ومصير المصالح الإسرائيلية هناك. على المستوى الفلسطيني لم يكن الفلسطينيون قد حققوا اي انجاز، وكانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لا تزال في تونس وتعاني حصاراً اميركياً ودولياً لم يكن من السهل فك طوقه.
وفي المشهد العراقي كان الوضع ينذر بسقوط النظام الذي ناصبته سوريا العداء وبادلها العداء بالعداء. في اختصار كان الأسد في قمة مجده. والحق ان الرجل الذي نقل سوريا من حال إلى حال، طبع سوريا بطابعه فعلاً وقولاً. فالحديث عن سوريا الأسد ليس محض خرافة. بل يمكن القول ان سوريا في عهد الأسد، تحولت وخلافاً لمجرى التاريخ، إلى سوريا الأسد حقاً. فهو صانع تاريخها وامجادها وانجازاتها. ورغم ضآلة الموارد والامكانات إلا ان الاسد الأب استطاع ان يصنع لسوريا دوراً محورياً في العالم العربي كان يعز نظيره في زمن التسعينات. فمصر كانت لا تزال في طريق العودة إلى العالم العربي بعد اتفاقية كمب دايفيد، والعربية السعودية كانت مشغولة انشغالاً مقلقاً في الخليج، فيما عينها الثانية مفتوحة غلى آخرها على الهلال السني في آسيا. اما العراق فكان واقعاً تحت الحصار الدولي، وينذر وضعه بعاقبته الوخيمة. كانت سوريا في تلك المرحلة اكثر الدول العربية قوة وحضوراً. واوسعها نشاطاً. على مثل هذا الحضور الوازن، كان في وسع الرئيس الأسد ان ينفذ سياساته في الجوار من دون حسيب او رقيب. والحق ان الإدارة الأميركية لم تجز للأسد الأب القبض على لبنان، لكنها ايضاً لم تعترض اعتراضاً صريحاً وفاعلاً. وعلى هذا التغاضي بنى الاسد سياسته القاسية في المنطقة وفي الداخل، فلم يتورع عن الضرب بقسوة في الداخل والخارج إذا وجد ذلك مناسباً لتعزيز نفوذه.
في ذلك الوقت تسلم الاسد الشاب، ولم يكن تجاوز الثلاثين بعد، المف اللبناني. ومعنى الملف اللبناني في العهدة السورية ليس اقل من الرئة التي يتنفس منها النظام اقتصادياً وسياسياً وامنياً وعسكرياً. كان هذا الملف في عهدة رئيس الأركان حكمت الشهابي في الثمانينات، ومن ثم انتقل إلى نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، ليستقر اخيراً بين يدي بشار الأسد. واوعز الأسد الأب إلى معاوني بشار في هذا الملف تزويده بكل ما يلزم ليتسنى له ان يدير هذا الملف على النحو الانسب. والحال يمكن القول ان كل ما جرى منذ ذلك الحين في لبنان يمت بعلاقة مباشرة لبشار الأسد، من التمديد للرئيس الياس الهراوي، إلى تفاهم نيسان في العام 1996، وصولاً إلى تعيين اميل لحود رئيساً، والتمديد له فيما بعد.
لكن المجد السوري بقيادة الأسد كان محفوفاً بأخطار يمكن معاينتها بالعين المجردة. اليوم يكثر الحديث عن خطورة مجاورة الجيش الاميركي لسوريا على حدودها مع العراق. لكن سنوات مجد الأسد الذهبية لم تكن بعيدة عن هذا الخطر. فالجيش الاميركي الذي حرر الكويت رابط في الخليج العربي. لم يكن بعيداً كثيراً. على مرمى دولة او يكاد، ليصل إلى الحدود السورية. والحق ان وجود الجيش الاميركي في المنطقة مع ما يعنيه ذلك من رعاية مصالح مباشرة للولايات المتحدة الاميركية، لم يكن في اي حال من الاحوال يمكن ان يديم لسوريا سيطرتها ودورها المتورم. هكذا دخل الأسد الابن عالم السياسة في لحظة تحف بها المخاطر من كل جانب. لكنه لم يصل إلى الرئاسة من دون رصيد. فالرئيس الفرنسي استبشر به كثيرأً وقابله من غير ان يحوز الرئيس العتيد اي صفة رسمية، وعلى النحو نفسه قيض للأسد الابن ان يلتقي بزعماء من دول العالم والعالم العربي من غير ان يكون ذا صفة رسمية. وحين اخذت علامات المرض والوهن تضرب الاسد الأب وتظهر على وجهه وجسمه، استبشر العالم كله بتغيير في سوريا. تغيير يقوده الاسد الشاب، في ما دعي انذاك جيل القادة الشبان في العالم العربي، ودفع محمد حسنين هيكل إلى التعليق الطريف الذي يقول فيه: ان التغيير لا يحصل في العالم العربي إلا بالموت. وينقل عن الملك عبدالله بن الحسين انه استبشر بالتغيير في سوريا خصوصاً ان القائد الجديد تلقى تعليمه في بريطانيا، مثل القادة الجدد في المشرق والمغرب، وانه منفتح على كل التطورات وعاين جهاراً طريقة عمل الديموقراطيات الغربية.
على كل حال لم يكن دور الاسد الابن من دون نجاحات على الإطلاق. ففي عهده عرفت دمشق بعض الانفتاح. وفي عهده ايضاً دخلت سوريا عصر المعلومات ولو من اضيق الابواب. ولا شك ان الاسد تجلى في القمم العربية التي حضرها وحاضر فيها في الأفكار والسياسة، ولم تكن احاديثه الصحافية تقل نجاحاً. لكن ما يجدر ملاحظته في هذا المجال، ان الرئيس الأسد الفصيح والمثقف كان انما يرد الخطاب السياسي السوري إلى زمن غابر. على الأقل إلى ما قبل عهد أبيه. فلم يكن المطلوب من الرئيس السوري في النصف الأول من العقد الحالي ان يحاضر بل ان يعلن مواقف. على الأقل هذا ما كان ينتظر من رئيس دولة محورية. لكن الاسد الابن بدا كما لو انه لا يستطيع، نظراً للحصار الذي يعانيه في الداخل والخارج، ان يعيد لسوريا ذلك الألق الذي كان لها في عهد والده.
والحق انه ما ان اضطر إلى اخذ خطوات جريئة، وتتسم بالقسوة التي عرف بها والده، حتى بدأ وضعه ينهار دولياً وعربياً. فليس من غريب المصادفات ان يتخذ الرئيس الأسد قراراً بالتمديد للرئيس لحود رغم المعارضة اللبنانية الواسعة تماشياً مع ارث ابيه. لكنه ما ان اتخذ القرار القاسي والجريء حتى جر عليه حصاراً لم يعد يحسن الفكاك منه.
ســــــــــــــــــوريا قلعة الصمود العربي
|