اقتباس:
أما عن الأنبياء الذين سرقوا فيا عزيزي ستجدهم في سورة يوسف:77
|
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ(77)قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(7

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ(79)فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(80)ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ(81)وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(82)قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(83)وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(84)قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ(85)قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(86)يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ(87)}
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} أي إن سرق فقد سرق أخوه الشقيق من قبله يعنون يوسف، تنصّلوا من السرقة ورموا بها يوسف وأخاه { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} أي أخفى تلك القولة في نفسه وكتمها ولم يُظهرها لإِخوته تلطفاً معهم {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} أي أنتم شرٌ منزلةً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء، ولم يواجههم بهذا الكلام وإنما قاله في نفسه {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} أي أعلم بما تتقوّلون وتفترون {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} استرحامٌ واستعطافٌ أي قالوا مستعطفين يا أيها السيد المبجَّل إنَّ أباه شيخ كبير في السِّن لا يكاد يستطيع فراقه {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أي خذ بدله واحداً منا فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي أتممْ إحسانك علينا فقد عودتنا الجميل والإِحسان {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} أي نعوذ بالله من أن نأخذ أحداً بجرم غيره {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} أي نكون ظالمين إن فعلنا ذلك، قال الألوسي: والتعبير بقوله {مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} بدل "من سَرَقَ" لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} أي ولما يئسوا من إجابة طلبهم يأساً تاماً، وعرفوا أن لا جدوى من الرجاء، اعتزلوا جانباً عن الناس يتناجون ويتشاورون {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} أي قال أكبرهم سناً وهو "روبيل" أليس قد أعطيتم أباكم عهداً وثيقاً بردِّ أخيكم؟ {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} أي ومن قبل هذا ألا تذكرون تفريطكم في يوسف؟ فكيف ترجعون إليه الآن؟ {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} أي فلن أفارق أرض مصر حتى يسمح لي أبي بالخروج منها {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} أي يحكم لي بخلاص أخي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي وهو سبحانه أعدل الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي ارجعوا إلى أبيكم فأخبروه بحقيقة ما جرى وقولوا له إن ابنك بنيامين سَرَق {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} أي ولسنا نشهد إلا بما تيقنا وعلمنا فقد رأينا الصاع في رَحْله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} أي واسأل أهل مصر عن حقيقة ما حدث، قال البيضاوي: أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي واسأل أيضاً القافلة التي جئنا معهم وهم قوم من كنعان كانوا بصحبتهم في هذه السفرة {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي صادقون فيما أخبرناك من أمره {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي زيَّنتْ وسهَّلت لكم أنفسكم أمراً ومكيدةً فنفذتموها، اتهمهم بالتآمر على "بنيامين" لما سبق منهم في أمر يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي لا أجد سوى الصبر محتسباً أجري عند الله {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} أي عسى أن يجمع الله شملي بهم، ويقرّ عيني برؤيتهم جميعاً {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي العالم بحالي الحكيم في تدبيره وتصريفه {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي أعرض عن أولاده كراهة لما سمع منهم {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} أي يا لهفي ويا حسرتي وحزني على يوسف {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} أي فقد بصره وعمي من شدة البكاء حزناً على ولديه {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوء القلب كمداً وغيظاً ولكنه يكتم ذلك في نفسه، وهو مغموم ومكروب لتلك الداهية الدهياء، قال أبو السعود: وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن ذكر يوسف كان آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما طامعاً في إيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله وفضله، وقال الرازي: الحزن الجديد يقوّي الحزن القديم الكامن في النفس، والأسى يبعث الأسى ويثير الأحزان قال الشاعر:
فقلت له إن الأسى يبعـث الأسى فدعْني فهذا كلـه قـبر مالك
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي تفتأ ولا تزال تذكر يوسف وتتفجع عليه {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أي حتى تكون مريضاً مشرفاً على الهلاك أو تهلك أسىً وحسرة وتموت {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} أي قال لهم يعقوب: لستُ أشكو غمّي وحزني إليكم وإنما أشكو ذلك إلى الله فهو الذي تنفع الشكوى إليه {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون أنتم فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ويأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي اذهبوا إلى الموضع الذي جئتم منه فالتمسوا يوسف وتعرّفوا على خبره وخبر أخيه بحواسكم {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} أي لا تقنطوا من رحمة الله وفرجه وتنفيسه {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} أي فإنه لا يقنط من رحمته تعالى إلا الجاحدون المنكرون لقدرته جلَّ وعلا.
إخبار يوسف إخوته بحقيقة أمره واعترافهم بخطئهم
{فَلَمَّا دَخَلوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ(8

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ(89)قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90)قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91)قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ(93)}
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} في الكلام محذوف أي فخرجوا راجعين إلى مصر فدخلوا على يوسف فلما دخلوا قالوا يا أيها العزيز أصابنا وأهلنا الشدة من الجدب والقحط {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي وجئنا ببضاعة رديئة مدفوعة يدفعها كل تاجرٍ رغبة عنها واحتقاراً، قال ابن عباس: كانت دراهمهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، أظهروا له الذل والانكسار استرحاماً واستعطافاً {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} أي أتمم لنا الكيل ولا تنقصْه لرداءة بضاعتنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أي بردّ أخينا إلينا أو بالمسامحة عن رداءة البضاعة {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} أي يثيب المحسنين أحسن الجزاء .. ولما بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار أدركته الرأفة فباح لهم بما كان يكتمه من أمره {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}؟ أي هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه حال شبابكم وطيشكم؟ والغرض تعظيم الواقعة كأنه يقول: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه! قال أبو السعود: وإنما قاله نصحاً لهم، وتحريضاً على التوبة، وشفقةً عليهم {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ} أي قال إخوته متعجبين مستغربين: أأنت يوسف حقاً؟ {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي} أي قال: نعم أنا يوسف وهذا أخي الشقيق {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي منَّ علينا بالخلاص من البلاء، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} أي إنه من يتق الله فيراقبه ويصبر على البلايا والمحن { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي لا يبطل أجرهم ولا يضيع إحسانهم بل يجزيهم عليه أوفى الجزاء، قال البيضاوي: ووضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} اعترافٌ بالخطيئة وإقرار بالذنب أي والله لقد فضَّلك الله علينا بالتقوى والصبر، والعلم والحلم {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي وحالُنا وشأننا أننا كنا مذنبين بصنيعنا الذي صنعنا بك، ولذلك أعزَّك الله وأذلنا، وأكرمك وأهاننا {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي قال لهم يوسف: لا عتب عليكم اليوم ولا عقوبة بل أصفح وأعفو {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} دعاءٌ لهم بالمغفرة وهذا زيادة تكريم منه لما فرط منهم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي هو جل وعلا المتفضل على التائب بالمغفرة والرحمة، أرحم بعباده من كل أحد {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} قال الطبري: ذُكر أن يوسف لمّا عرَّف نفسه لإخوته سألهم عن أبيهم فقالوا: ذهب بصره من الحزن فعند ذلك أعطاهم قميصه، وأراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك {يَأْتِ بَصِيرًا} أي يرجع إليه بصره {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي وجيئوني بجميع الأهل والذرية من أولاد يعقوب.
