عرض مشاركة واحدة
قديم 19/10/2009   #2
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


... وفي عاصمة الرئيس
الاستقبال الفظيع في مطار الرئيس لا يستحقّ العناية في عُرف الكولونيل الأوّل الذي التقيتُه من بين عسكريي مجلس قيادة الثورة. ولعلّه تمالك نفسَه عندما لاحت على وجهه ابتسامةٌ مقطوعةٌ طواها بعبارة: "ليس مهمّاً ما حصل معك. المهمّ أنك هنا!"

تمرينُ الأسئلة والأجوبة مع العقيد كان غايةً في الصعوبة؛ فهو "ثوريّ" لا يتحمّل محاورًا حياديّاً. لذا ما فتئ يسأل: "أنت مع من؟ ما رأيك أنت؟ أليس هذا ما يقوله أعداؤنا؟". ولعلّه في خاتمة اللقاء استنتج في سرّه أنّ استقبالي الفظيع في المطار كان له ما يبرّره، فصرفنا من مكتبه وهو مكفهرُّ الوجه .فقرّرتُ أنّ للخوف دولةً في هذا البلد، وأنّ احترافَ الترهيب فيها ليس استثناءً أو "سوءَ تفاهمٍ" كالذي مرّ بالأمس.

في شوارع العاصمة، يسير الناسُ ببطء شديد يشْبه ما قاله المتنبّي في وصف مشية الأسد وتربّصه: "كأنه آسٌ يجسّ عليلا." فحرارة الشمس الرهيبة في هذا المكان تَسقط عموديّاً على الرؤوس، وتُثقل الحركةَ في الأطراف، فلا يستعيد الناسُ خفّةَ حركتهم إلاّ في ساعات الغروب وما بعدها. وعندما يتظاهر السكّان، كما شاهدتُ في ذلك اليوم، فإنهم يمشون بهدوء، فتظنّ أنهم يتنقّلون على رؤوس أصابعهم، فيما أيديهم الطويلة والنحيلة تلوّح إلى الأمام وإلى الوراء حتى لتبدو وكأنها ستنفصل عن أجسادهم أو كأنها ترتبط وإيّاها بخيطٍ رفيع. وكانت هتافاتُهم تعكس الكثيرَ من الحقد المتراكم على جارهم العربيّ الكبير. ولمّا كان آلافُ المتظاهرين قد تجمّعوا لتأييد العراق خلال أزمة الخليج الثانية، فإنهم طلبوا إلى الرئيس العراقيّ أن يشفي غليلَهم وأن يثأرَ لهم من جارهم. في تلك اللحظة شعرتُ أنّ الجنون، إذا ما توافرتْ له قيادةٌ مناسبة، قد يُحرق الأرضَ وما عليها، وأنّ الحريقَ لا يطاول الإمبرياليّةَ وإسرائيل وإنما يبدأ في المحيط ويبقى فيه.

جنونُ الصباح والظهيرة سيقابله، مساءً، ضربٌ من الشجاعة الهوجاء. فقد قرّرتُ أن أزور سيّدةً معارضةً في منزلها، ومارستُ كلَّ أنواع الضغوط الظريفة على "المحبوب" كي يرافقني إلى حيث تقيم، فعلّق قائلاً: "ولمَ لا؟ نحن ديموقراطيون، وإلاّ فكيف يبقى معارضون في بلادنا؟!". ومساءً كنّا نطرق بابَ منزلها مع حسن، الذي يعمل في صحيفةٍ محليّةٍ ناطقةٍ بالإنكليزيّة.

استقبلتنا السيّدة بتهذيبٍ استغرق دقائق. ثم سألتني عن السبب الذي يجعلني أرافق ممثّلين لنظامٍ ديكتاتوريّ .بدا سؤالُها استفزازيّاً، لكنّ صيغته محبّبة وتُفْصح عن معرفةٍ حميمةٍ بالشابّين. وإذ رفض حسن ادّعاءَ تمثيل النظام، بدا على "المحبوب" حرجٌ هائل، فأطلق عبارتين بلهجةٍ محلّيّةٍ تنمّان عن رفضٍ مزدوجٍ لصفة الديكتاتوريّة عن نفسه (وهي لا تليق به فعلاً) وعن "الثورة" التي يمثّلها. إذّاك بدت السيّدة المعارضة "الماركسيّة" وكأنها تنتظر مثلَ هذه الفرصة بفارغ الصبر. فقد أطلقت العنانَ لصوتها الذي ارتفع حتى وصل إلى الشوارع المحاذية للمنزل، وتراءى لي أنها تريد أن يَسمع الرئيسُ وأعضاءُ مجلس قيادة الثورة عباراتِها اللاذعة وأوصافَها الشنيعة. ولعلّها اعتقدتْ أنّ وجودي في المكان حصانةٌ لها. غير أنّ مصدر "الحصانة" سيُضطرّ إلى قضاء "ليلة بيضاء" أخرى على ما يقول الفرنسيون، وسيتخيّل ـ لساعات ـ شكلَ مقتحمي غرفته وسيلَ أسئلتهم عن "التواطؤ" مع السيّدة المعارضة وجماعتها.

عندما اكتشفت السيّدة أنّ أحدًا لم يتعرّضْ لها بعد شتائم الأمس، رغبتْ في أن تستفيدَ من وجودي في عاصمة بلادها إلى أقصى حدّ: مرّةً كدرعٍ بشريّةٍ معنويّة، وأخرى كواسطةٍ لنقل رسالةٍ سريّةٍ إلى رفاقها المعارضين في الخارج. فجاءتني إلى الفندق مع نجلها، وخاطبتني قائلةً:
ـ أنت لا يفتّشونك عندما ستخرج من المطار، فهل تنقل لي رسالةً مهمّةً معك؟
ـ وماذا لو فتّشوني؟
ـ تدّعي أنّ شخصًا لا تعرفه وضعها باسمك في الفندق؛ فأنت أجنبيّ. ثم يمْكنك أن تخبّئها في مكانٍ سرّيّ؛ ذلك أنّ رجال أمننا غيرُ محترفين ويمكن خداعُهم.
رويتُ لها تفاصيلَ الاستقبال الفظيع، واجتهدتُ في إقناعها بأنني معرَّضٌ للتفتيش والمساءلة كأيّ شخصٍ آخر، بل ربّما أكثر من أيّ مواطنٍ عاديّ. فقرّرتْ أن ترسلَ معي رسالةً عاديّةً لقريبٍ لها في باريس. وافقتُ على مضض، وحملتُ الرسالة إلى غرفتي، وفي ظنّي أنها رسالةٌ سياسيّةٌ "مفخّخة" لا أدري كيف ومتى وأين "ستنفجر." وقرّرتُ في كلّ الحالات أنّ "انفجارها" أفضلُ بكثيرٍ من فتحها والاطّلاعِ على مضمونها، وأنّ الخوف يجب ألاّ يحوّلني إلى لصٍّ تافهٍ يعبث بخطابٍ شخصيّ مفترض.


في المساء كان مشهدُ الناس المحتشدين في باحة الفندق (الذي بنته دولةٌ اشتراكيّةٌ في عهد نظامٍ سابقٍ موالٍ للكتلة السوفياتيّة) يبعث على اليأس والإحباط. عشراتُ الأشخاص ينتظرون دورَهم للحصول على مكالمةٍ هاتفيّة مع قريبٍ في الخارج؛ ذلك أنّ الثورة، عندما حلّت قبل عام في هذا البلد، فشلتْ في إدارة الاتصالات الدوليّة وتحمّلِ أكلافها، فلم يجد المواطنون بدّاً من الاستعانة بخطوط هاتفٍ محدودةٍ وخاضعةٍ للرقابة "الثوريّة." وكانت للمتحدثين أسبابٌ كثيرةٌ للشعور بالإهانة، لا بفعل الانتظار ساعاتٍ للحصول على مكالمةٍ هاتفيّةٍ قصيرة فحسب، وإنما أيضًا لاضطرارهم إلى التكلّم بصوتٍ مرتفعٍ على مسمع من المحتشدين في القاعة.

في جناح الفندق، وهربًا من الإحساس بالضيق والاختناق، استجرْتُ بالتلفزيون الثوريّ، فكان ذلك مشهدًا آخرَ للعدم. حلقةُ ذلك المساء كانت تدور حول التباري الشعريّ: شبّانٌ تَطلب إليهم هيئةٌ من المحكّمين المسنّين استعادةَ أبياتٍ قديمةٍ كانوا يردّدونها انطلاقًا من القوافي على مدى ساعتين، لينتهي الأمرُ بفائزٍ أثنى المحكِّمون على ذاكرته، وسط ديكورٍ رديء، وطريقةٍ في التصوير والتقديم لا تقلّ رداءةً. وتساءلتُ في سرّي: هل يحظى كلُّ هذا العدم بجمهورٍ من المشاهدين؟ وهل يمْكن ثورةً تُنتج كلَّ هذه الضحالة أن تعيشَ وتدوم؟ لم أعرفْ ثورةً واحدةً لا تعبأ بالأحلام قدْرَ هذه الثورة. وقلتُ لنفسي إنّ الشيء الوحيد الذي يسمح بانبثاق هذا العدم هو وجودُ عدمٍ آخرَ قبله!

في اليوم التالي كنّا في حضرة المُرشد الروحيّ للثورة، وهو يعيش قيدَ الإقامة الجبريّة، لكنه يلتقي مَن يريد وساعةَ يريد (وهذه المفارقة ليست الوحيدة التي تصدم زائرَ هذا البلد). الرجل النحيل الرشيق يتمتّع بذكاءٍ مذهل، وهوعلى قدْرٍ من الاحتراف السياسيّ الرفيع، ويمتلك معرفةً متنوّعةَ المصادر. لا ينظر في عينيك عندما يخاطبكَ، وتشعر أنه يعرف كلَّ أسئلتك، وأنه يمارس تمرينًا سهلاً في الإجابة ينمّ عن خبرةٍ طويلةٍ في استخدام وسائل التعبير، وأحيانًا تعتقد أنه يقول كلامًا كنتَ تودّ ذاتَ يوم أن تقوله. وينتهي الأمرُ بأن تستسلم تمامًا عندما تخرج من منزله، متسائلاً عمّا إذا كانت هذه العبقريّةُ الحقيقيّةُ نتيجةً أمْ سببًا لكلّ هذا الفراغ السائد في المكان!

قبل الغروب اتّصل بي حسن، الذي كان يدرك مدى انقباضي، وأكّد أنني سأكون ضيفًا في حفلةٍ خاصّةٍ تلك الليلة. بعد ساعاتٍ كنّا على شرفة منزلٍ "كولونياليٍّ" سابق، نشرب عصيرًا محلّيّاً منعشًا ونستمع إلى فرقةٍ موسيقيّة تعزف ألحانًا محلّيّة وغربيّة صاخبة. وكان بين المدعوّين ديبلوماسيٌّ أميركيّ، ترافقه زوجتُه التي حاولتْ أن تتحدّث إليّ بوصفي الزائرَ الغريبَ الوحيدَ بين الحضور. وشعرتُ بارتيابٍ أكبر عندما انضمّ زوجُها إلينا، وبخاصّةٍ عندما سألني عن موقفي من أزمة الخليج الثانية. في هذه اللحظة تراءى لي أنّ "الثوريين" الذين يتجمّعون في ذلك المكان سيكون لديهم ما ينقلونه إلى رؤسائهم، وأنّ هذا الموضوع التافه، عن محادثةٍ بين صحافيّ عربيّ وديبلوماسيّ أميركيّ يرمز إلى الإمبرياليّة، قد يكون موضوعَ الساعة في مكانٍ يعمّه الفراغُ المخيف.
وتخيّلتُ مرّةً أخرى أنّ متاعبي لن تنتهي قريبًا، وأنّ هذه الفسحة "البورجوازيّة" الممتعة ضاعت تمامًا بفعل مصادفةٍ غريبة، وأنني كنتُ أحتاج إلى شيء غير القبول الإجباريّ (الذي تحتّمه اللياقة) بالاستماع إلى أقوال ممثّل الإمبرياليّة الرسميّ في بلدٍ يحْمل يوميّاً على الإمبرياليّة. "سامحكَ الله يا حسن،" قلتُ لمرافقي، "ألم يكن في وسعك اختيارُ مكانٍ لا يرتاده ديبلوماسيّون أميركيّون؟" قهقه حسن بصوتٍ عالٍ حتى بلغنا باحةَ الفندق، فودّعني متمنّيًا لي نومًا هادئًا.

عندما قرّرتُ أن أغادر بلادَ الرئيس، ضاربًا عرضَ الحائط بالموعد المنتظر مع صاحب القصر، جاء أحدُ مساعديه بعد ظهر ذلك اليوم ليعتذرَ عن انشغال "فخامته" وعن كثرة مواعيده واضطراره إلى السفر المفاجئ إلى إحدى المحافظات .واعتذر أيضًا عن الاستقبال الفظيع الذي تمّ في المطار، وتمنّى أن أزورَ بلادَه في مناسبةٍ أخرى وظروفٍ أفضل، وأكّد أنّ دعوتي مفتوحةٌ بدءًا بهذه اللحظة.

في اليوم التالي كنتُ في طريقي إلى مطار الرئيس، يرافقني حسن للحؤول دون "سوء تفاهمٍ" جديد. وهناك صافحني المسؤولُ الأمنيُّ نفسُه، بحرارةٍ مصطنعةٍ لم تخفِ فظاظتَه، مخاطبًا زميلي: "لقد أتعبَنا صاحبُكَ وغَلّبنا، لكننا الآن نرحِّب به ساعة يشاء؛ فبلادُنا بلاده." ثمّ توجّه إليّ قائلاً: "المعذرة يا أستاذ." فاكتفيتُ بجوابٍ باردٍ، وآثرتُ كتمَ مشاعري الحقيقيّة.

في الطائرة التابعة لشركة طيرانٍ عربيّة، شعرتُ برغبةٍ دفينةٍ في الاستسلام للنوم، وانتظرتُ الإقلاعَ، الذي ترافق مع سقوط عازلٍ داخليٍّ في المؤخّرة على مقربةٍ من مقعدي. بيّد أنّ سقوطَه لم يُثِر الركّابَ القلائلَ في هذا القسم من الطائرة. وعندما عبّرتُ عن ذهولي، ردّ المضيفون بقهقهةٍ عاليةٍ فهمتُ منها أنّ ما حدث مألوفٌ لديهم، وأنّ عليّ ألاّ أتعجّلَ في طلب الراحة والنوم؛ فالاطمئنانُ الحقيقيّ لن يتمّ إلاّ في الطائرة المقبلة التي سأستقلّها من مطار الدولة العربيّة المجاورة باتجاه باريس.

في هذا المطار الجديد كان عليّ أن أتحمّلَ نتائجَ زيارتي لبلاد الرئيس، فأُمنعَ من الخروج من المطار. ذلك أنّ "الظروف المتوتّرة" خلال أزمة الخليج استدعتْ إجراءاتٍ استثنائيّةً مفاجئةً قضت بأن أُمضيَ ليلتي في فندق قاعة الترانزيت، وأن أكونَ شاهدًا على حوارٍ عدائيّ بين نادل المطعم ونزيلٍ ينتمي إلى بلدٍ سيصبح في ما بعد من "دول الضدّ." فقد لقّنه النادلُ درسًا في "التحضّر وآدابِ المائدة" لأنه طلب بصلةً ليتناولها مع طبق العشاء، مستنتجًا أنّ النزيل متخلّفٌ كرئيس بلاده وأنه ينتمي إلى شعبٍ منحطّ. فرضخ النزيلُ ولاحت على وجهه علاماتُ "التوعّد." واندلعتْ حربُ الخليج الثانية بعد أقلّ من ثلاثة أشهر، فكانت في أحد وجوهها ضربًا من ضروب "التوعّد" المتراكمة.

زرتُ بلادَ الرئيس غيرَ مرّةٍ منذ ذلك التاريخ. وفي كلّ مرّة كنتُ على موعدٍ مع أشكالٍ جديدةٍ من الفظاعة والخوف والقلق لا تتناسب مع مزاج أبناء هذه البلاد الهادئين الطيّبين الذين يحتاجون إلى أشياءَ أخرى غيرِ قصور الأشباح وصحبة فرانكشتاين.



* كاتب لبنانيّ مقيم في باريس.



مجلة الآداب 9/10/2009



ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05019 seconds with 11 queries