نهايةُ اليومِ الثّاني
عندَ نهر الزّاب توقّفنا قليلاً وأخذنا بضع صورٍ بين حناياه الصخريّة، ثمَّ أكملنا الطّريقَ إلى "شيلادزّه" متخوّفين من نفاد الوقود، إلا أنَّ اللهَ منَّ علينا بمحطّةِ وقودٍ أشبعت السيّارة وأشبعتنا من الغبطة والارتياح. ومن عمّال المحطّة حصلنا على خريطة الطّريق إلى موضع التقاء الزّاب بأرضِ العراق. في الرّابعة والرّبع وصلنا المدينة المنشودة واجتزناها نحوَ الشّمال، لكنَّ اقترابَنا من الحدود التركيّة، وخلوّ المنطقة من البشر بعثا القلقَ في قلبِ مرافقي، فقال لي: سنعودُ أدراجَنا، ولم ينتظرْ جواباً مني بل أدارَ مقودَ السيّارة وعادَ من حيثُ أتينا!
على ضفاف الزّابِ الأكبر جلسنا في مطعمٍ صغيرٍ تلامسُ مياهُ النّهرِ صخورَه، وأوصى أبو بشّار على "التكّة" وهي "الشّقف" السّوريّة، أي قطع لحمِ الخروفِ المشويّة! وفي الفترة التي أمضاها الشّاوي في إعدادِها نزلَ أبو بشّار إلى ضفّةِ النّهرِ الصّاخبة بهديرِ المياه المندفعة اندفاعَ سيلٍ عرمرم من جبلٍ عالٍ، فتبعتُه حذراً من الانزلاقِ على الأرضِ المنحدرة المبلّلة بالرذاذ المتطاير، وهناكَ جلستُ على صخرةٍ نابتة في قلبِ التّراب أرقبُ قريبي بقلبٍ واجفٍ، فما كانَ منه إلا أن خلعَ نعلَيه ثمَّ جوربَيه وبدأ يغتسلُ في المياه الباردة المُنعشة. تاقتْ نفسي إلى ملامسة المياه ولكأنّها تبغي ملامسةَ الماضي والحاضرَ وكلَّ أمجاد هذه الأرض الخالدة، فخلعتُ أنا أيضاً حذائي ثمَّ جوربيَّ وقرّبتُ قدمي اليُمنى برجفةٍ من النّهرِ المليء بالأسرار والألغاز، وما إن احتضن التيّارُ الهادرُ القدمَ حتّى شعرتُ بأنّ النّهرَ قطعةٌ من الثّلجِ تذوبُ شيئاً فشيئاً، كانت باردةً إلى حدٍّ رفعتُ فيها قدمي مرّات قبلَ إعادتها من جديد إلى المياه، وبدأتُ طقسَ الاغتسالِ بنشوةٍ لم أعهد لها مثيلاً من قبل. المفارقةُ جعلتني أغيبُ عن المكان بفكري وبصيرتي، فالشّمسُ من علا السّماء تكوي الأرضَ بلهيبِ أشعّتها، والنّهر من قاعِ هذه الأرض يبرّدُ ما احترقَ ويُنعشُ ما ذبل.
كانَ الغداءُ لذيذاً فلم يبقَ في الأطباق شيءٌ، واللذّةُ المجبولة بجوعِ السّفر أتت أيضاً على الفتات الباقي، وكانَ شرابُنا من ماءِ النّهرِ إمعاناً منّا في اقتبالِ هبة الخالق كما خرجتْ من بين كفّيه!
لم أنسَ قبلَ الرّحيل تصويرَ المكان، فإن خانت الذّاكرةُ يوماً ولم تسعف في الإبقاء على ذاك السّحر والجمال، فالصّورةُ أوفى عهداً ولا خوفَ عليها من فواجع النسيان.
عُدنا أدراجَنا قبلَ أن تُسدلَ الشّمسُ السّتارَ وتفسحُ بغيابِها مكاناً لكوكبِ الليلِ المتلألئ وسط نسيج السّماء الأسود. وفي طريقِ العودة مررنا بمدينة العمّاديّة، وتجوّلنا فيها بسيّارتنا، وعندما وصلنا مكاناً فسيحاً فوجئ أبو بشّار بدبّابتين جديدتين وحاملة جنود يلمعُ حديدُها تحت ما تبقّى من نورِ النّهار، علمنا أنّها تعودُ إلى جيشِ الأتراك القادمين لمحاربة "البَكَكَة". وهكذا بدأت شمسُ يومِنا ذاك تنفخُ في البوقِ معلنةً انسحاب جيوش أنوارِها إلى ما وراء الجبال، وأعدنا عبورَ الطّريقِ مرّةً أخرى فمررنا ببحيرةٍ من صنعِ قائدِ العراق الرّاحل ابن تكريت، واسترحنا قليلاً في بلدة "سواراتوكا" في مَقْصَفٍ يعود إلى العهدِ الذي سبقَ استقلال دولة العراق الحديث، ثُمَّ أكملنا الطّريقَ نحوَ الجنوب.
وصلنا دهوكَ في الثّامنة وقمنا بزيارةِ رجلٍ عجوز مُقعَد من عائلة النجّار يعرفه أبو بشّار منذ زمنٍ بعيد، وما إن رآنا حتّى أخذَ يبكي كطفلٍ رضيع. ومن تلك الزّيارة التي فطرت فؤادي توجّهنا إلى دارِ الأسقفيّة حيثُ قابَلَنا صاحبُ عرشِ الكاثدرا بابتسامةٍ وطيبةٍ لم أعتدْها من أحدٍ في مثلِ هذا المنصب. عُدنا إلى نزلنا حيثُ حضرَ العشاءُ فأكلتُ والتّعبُ يأكلُ من جسدي كلَّ موضع، والوسنُ يثقل جفنيَّ ورأسي. وعندَ منتصفِ الليلِ استلقيتُ على الفراش متدثّراً بالعتمات ورحتُ في نومٍ عميقٍ أنهيتُ بهِ يوميَ الثّاني في أرضِ العراق.
Mors ultima ratio
.
www.tuesillevir.blogspot.com
|