حفل زياد الرحباني في ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية
جمهــور يقـــول «لا»
لم يحضَ الحفل بكثير من الترويج الدعائي، لكن خبراً كهذا يجد دوماً طريقه إلى العشرات ولو همساً في المقاهي أو تواتراً بين الأصدقاء: زياد الرحباني يحيي حفلاً في مسرح المدينة بمناسبة ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. الثامنة والنصف مساء. يغص المسرح بجمهور يتمسك بتواريخ وقصص عن عمليات جعلت شوارع بيروت زواريب مفخخة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، تحديداًَ بعد احتلال العاصمة اللبنانية العام 1982.
بعض هؤلاء أضاء شموعاً منذ لحظات بالقرب من صيدلية «بسترس» حيث اللوحة التي توثق للعملية الأولى لـ«جمّول». أكملوا السير باتجاه شارع «الحمراء» الرئيسي. منهم من يحملون أعلام الحزب الشيوعي اللبناني، يحتفلون على طريقتهم بـ«عيد» جمّول لا ذكراها، تكوّن جزء من وعيهم السياسي والثقافي مع تراكم بطولات عشرات العمليات التي أفسحت مجالاً أمام الذكرى لتصبح عيداً. امتلأ المسرح سريعاً بانتظار حفل قيل انه سيكون لزياد الرحباني وخالد الهبر معاً، لكن الهبر لم يحضر.
تطل مايا دياب، تعلن أن الكلمة الأولى كان من المفترض ان تكون للزميل إبراهيم الأمين «لكنه لم يستطع الحضور لأسباب طارئة»، وتعطي الكلام للزميل جان عزيز. لا تكاد تنهي دياب لفظها الاسم حتى تتصاعد صيحات الاحتجاج في المسرح. عشرات الشبان يقاطعونها مستهجنين بلفظة «وووو..» تعبيراً عن رفضهم، يصرخون بانفعال رافضين صعوده على المسرح. احتجاج غير عابر ومدته لن تقتصر على ثوان قليلة. تتصاعد الأصوات المعترضة مع صعود الزميل عزيز على الخشبة وتطغى على نفوذ المايكروفون أمامه في هذه اللحظة. قال أحدهم «ما بنرضى لصاحب تاريخ أسود أن يتكلم في يوم كهذا». هو يحتفظ برباطة جأشه، ولو أن ضوء المسرح المسلط عليه وحده وسط المحيط الأسود بدا أنه حليف الشباب في وضعه في موقع المحاسبة، ولو على تاريخ ومواقف أعاد هو قراءتها ونقدها والتراجع عن الكثير من مسلماتها.
يخرج صوت محتد من المدرجات «ما منسمح للمجرمين يكونوا هون اليوم لو شو ما كانوا بدن يقولوا»، ينتظر عزيز قليلاً ولا يهدأ الشباب. يعلو التوتر والصراخ داخل القاعة. يتدخل شبان لحل النزاع، من دون فائدة. لا شباك في الأيدي لكن التلاسن جار بين المنظمين والمعترضين: «ما بنسمح لهيك ناس يحكوا عن الذكرى.. نسيتوا التاريخ؟»...
في الجهة اليمنى للمسرح تختلط العبارات المعترضة مع الـ«ووو...» التي لم تتوقف. يتصاعد التوتر بين شبان تكفّلوا بالتهدئة وآخرين رافضين «لوضعنا أمام الأمر الواقع». يستمر الصراخ ولم تبدأ الكلمة بعد. وسط المدرج، يرفض شابان حتى ان يشهدا حفلا كهذا. «هَي إهانة إلنا. ما منرضى» لا تجدي محاولات إقناعهما بالبقاء. يغادران. عبارة «ووو..» لا تزال هي الطاغية.
تتدخل دياب لتهدئة الجمهور «زياد الرحباني هو من دعا جان عزيز. والليلة مش رح يصير مشكل». لا يجدي التمني نفعاً. بقيت الصيحات على حالها. بدا واضحاً في هذه اللحظة ان الاعتراض لم يكن على شخص الزميل جان عزيز، هو رفض لمنطق منظمي الحفلة. للمرة الأولى بعض من «شعب» زياد الرحباني يعترض. يقول له «لا». لا يقع اسمه هنا كعصا سحرية تسكت الجميع. لا مجال إذا لـ«مَونة» ما يملكها اسم زياد على جمهوره، الجمهور يرفض الانصياع لرغبة حبيبه عندما يتعلق الأمر بحساسية ذكرى كهذه. ولا حتى كلمة الزميل عزيز استطاعت ان تهدئ من ثاروا ولو أنها استهلت بمراجعة نقدية شبه اعتذاريه عمن كان قد «شارف على الثامنة عشرة يوم انطلاقة جمّّول»، في كلمته أكد الرجل الذي كان منخرطاً ضمن الكتائب اللبنانية، انه توصل إلى قناعات أهمها انه لا يمكن للبناني أن ينتصر على الآخر وان إسرائيلي عدو.. «عن جد عدو». سرعان ما تختلط صيحات الاستهجان بتصفيق قسم من الجمهور تشجيعاً لموقف عزيز. هكذا ستكون الحال خلال تلاوة الكلمة. تصفيق الإعجاب بشجاعة الاعتراف مقابل الاستهجان لدعوة شخص يقول انه كان في الماضي في «مقلب آخر» بل «المقلب الآخر».
تنزعج صبية من عدم توقف الشبان عن «التشويش على الكلمة». تصرخ بانفعال: «شو نحنا بمزرعة.. اسمعوه عالقليلة اسمعوا شو عم يقول». تلتقي الصبية مع وجهة نظر تقول ان زياد متقدم في هذه اللحظة عن جمهوره وان الحكمة تقتضي باحتضان «التائب» لا «رجمه». لكن معظم الجمهور لا يعنيه تفسير من هذا النوع. تبدو «المحاسبة» علنية لتاريخ يمثله في هذه اللحظة عزيز ولمنظمي الحفل على حد سواء. تنتهي الكلمة المكتوبة ويتوجه عزيز إلى الشبان قائلاً «إن ما تفعلونه يؤسس لحرب أخطر من تلك التي كانت قائمة».
بأية حال أتت كلمة سعد الله مزرعاني لاحقاً لتذهب باتجاه دعوة الشباب إلى الاستماع إلى كل جديد وتحديداً إذا كان صادراً عمن كان في المقلب الآخر أي أقصى اليمين: «هل تعلمون حجم الجهد الذي بذله كي يصل إلى هنا؟». لكن الجمهور كان قد قال كلمته.
بعد كل هذا التوتر والأخذ والرد. يعود المسرح خاوياً. ينتظر الجمهور ويصفق بانتظار زياد. تطل الفرقة ويبداً الحفل. لاحقاً سيغني غسان رحباني للأرمن اللبنانيين وستقدم كاثي زخّور أغنيتها «إذا ما في» وسنتعرف إلى الشابة إليسا البستاني وهي تقدم «أوراق الخريف» بالفرنسية والانكليزية بعد تدريب قصير مع زياد قبل فترة وجيزة من الحفلة.
سيلقي عصام العبد الله شعره على موسيقى زياد الذي سيحصد، كما العادة، الكم الأكبر من التصفيق، وسيشارك كل من الفنانين مجدي مشموشي وطارق تميم ورضوان حمزة وبطرس فرح ومايا دياب وغيرهم في قراءة مقتطفات كتبها زياد، سيسير برنامج الحفلة الطويل برشاقة بانتظار أن يطل الأسير السابق أنور ياسين متحدثاً عن تجربة الأسر والنضال داخل المعتقل الإسرائيلي، وتنتهي الكلمة بتصفيق وعناق بينه وبين الرحباني الذي يذكره بأنه لم يهنئه بعد تحريره من المعتقل عمدا «بتعرف لَيً؟» سيجيب الأسير المحرر بما معناه «لأنك بتحبني».
سيطل أيضاً النائب السابق نجاح واكيم ليؤكد ان الذكرى لم تجد من يتذكرها سوى جريدتي «السفير» و»الأخبار» و»صوت الشعب» كالعادة وقناة «الجديد»، في حين كان معظم أقطاب الدولة في ذكرى اغتيال الرئيس بشير الجميل.
وعندما يأتي موعد الختام سيستمع الجمهور إلى أغنية مسجلة هي عبارة عن «بروفا» تجريبية لنشيد كان يفترض ان يكون للحزب الشيوعي غناه يومها أحمد قعبور وزياد الرحباني وجوزف صقر وغيرهم، ممن أصبحوا في مواقع مختلفة، لا بل متناقضة اليوم.
بقيت انطلاقة السهرة هي الأبرز عبر ردة فعل ستكون بلا شك محور الكثير من التحليل لاحقاً. ولو ان الرحباني تطرق إليها على اعتبار انها «مَشكل» وقد عرف مفتعلوها.
ليس بأمر عادي أن تنتهي حفلة لزياد الرحباني ويكون نجمها الأبرز تصميم شبان مسيّسين، هدفهم تسجيل موقف ولو في لحظة انفعال من دون تخريب حفلة أكملت بنجاح برغم توتر بدايتها.
هناك ما يطمئن في حفل أمس الأول: هناك جمهور في لبنان لم يتخل بعد عن حقه بالتعبير عن رأيه. جمهور يقول علانية انه لن يرضى بأي شيء لمجرد انه جاء «من فوق». و»من فوق» لا يعني بالضرورة من سلطة سياسة، بل للفن سطوته أيضاً على الجماهير، وفي الأمر طمأنة إضافية.
مايسة عواد - جريدة السفير
ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
|