عرض مشاركة واحدة
قديم 02/08/2009   #2
شب و شيخ الشباب sheldi
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ sheldi
sheldi is offline
 
نورنا ب:
Apr 2008
مشاركات:
281

افتراضي m


نوبار صديق أرمني متوحد. اضطر ذووه الى مغادرة تركيا في العام 1915، بعد ان تعرّضت عائلتاهما للمذابح: حيث قُطع رأس جده لأمه. مضى والد نوبار ووالدته الى حلب، ومنها الى القاهرة. وفي اواسط الستينات، غدت الحياة عسيرة في مصر على غير المصريين، فسافر والداه، مع اطفالهما الاربعة، الى بيروت بمساعدة منظمة دولية للإغاثة. وفي بيروت، عاشوا في نزل لفترة قصيرة ثم تكدسوا في غرفتين من منزل صغير خارج المدينة. كان المال يعوزهم في لبنان وانتظروا: بعد ثمانية اشهر، تمكنت وكالة الاغاثة من نقلهم بالطائرة الى غلاسكو. ومن ثم الى جاندر. وبعدها الى نيويورك. ومن نيويورك ركبوا حافلة من حافلات غري هاوند الى سياتل: كانت سياتل هي المدينة التي وقع عليها اختيار الوكالة لاقامتهم في اميركا. وحين سألت نوبار: \"سياتل\"؟ ابتسم مستسلماً، كأنه يقول: سياتل أفضل من ارمينيا - التي لم يعرفها ابداً - أو تركيا، حيث ذبح الكثيرون، أو لبنان، حيث كان لا بد له ولأسرته من المخاطرة بحياتهم. فالمنفى أفضل في بعض الاحيان من البقاء او عدم الخروج: إنما في بعض الاحيان وحسب.

رلأن ما من شيء في المنفى آمن أو مضمون، فإن المنفى هو حالة من الغيرة. فما تحققه هو بالضبط ما لا تتمنى ان تتشاطره مع احد، وبرسمك الخطوط من حولك ومن حول ابناء بلدك إنما تبرز أسوأ الجوانب في حالة النفي: ذلك الاحساس المفرط بتضامن الجماعة، وذلك العداء المشبوب تجاه من هم خارجها، بمن فيهم اولئك الواقعون في ذات الورطة مثلك. فأي صراع يفوق في عناده الصراع بين اليهود الصهاينة والفلسطينيين العرب؟ فالفلسطينيون يشعرون انهم قد تحولوا الى منفيين على ايدي اليهود، ذلك الشعب الذي يُضرب به المثل في النفي، غير ان الفلسطينيين يعلمون ايضاً ان احساسهم بالهوية الوطنية قد ترعرع في وسط المنفى، حيث كل من لا تربطهم به صلة الدم هو عدو، وحيث كل متعاطف هو عميل لهذه القوة المناوئة او تلك، وحيث ادنى انحراف عن خط الجماعة المقبول هو فعل من أبشع افعال الخيانة والخروج.

ولعل هذا ان يكون اغرب مصير بين مصائر المنفى: ان تكون منفياً من قبل منفيين، ان تتجدد عملية الاقتلاع فعلاً على ايدي منفيين. لم يبق فلسطيني الا وتساءل في صيف عام 1982 اي دافع خفي دفع اسرائيل، التي سبق لها ان اقتلعت الفلسطينيين في عام 1948، لأن تواصل طردهم من بيوت ومخيمات اللجوء في لبنان. وكأن التجربة الجمعية اليهودية التي اعيد بناؤها، على النحو الذي تمثله اسرائيل والصهيونية الحديثة، لا تطيق ان تتواجد بجانبها قصة اخرى من قصص الاستلاب والضياع، وهذه عدم اطاقة لطالما عززها العداء الاسرائيلي لوطنية الفلسطينيين، الذين عانوا اشد المعاناة طوال ستة واربعين عاماً وهم يلمون في المنفى شتات هوية وطنية.

اننا نجدد هذه الحاجة الى لمِّ شتات الهوية انطلاقاً من انكسارات المنفى وانقطاعاته في القصائد الباكرة لدى محمود درويش، الذي يرقى عمله الكبير لأن يكون ضرباً من الجهد الملحمي الرامي الى تحويل اغاني الضياع الى دراما العودة المؤجلة حتى اشعار آخر. (...)

ولعل حكاية \"إيمي فوستر\" لجوزيف كونراد ان تكون أقصى تمثيل للنفي كتب الى الآن. فكونراد كان ينظر الى نفسه كمنفي من بولندا، حيث تحمل اعماله كلها تقريباً (فضلاً عن حياته) علامة لا مجال للخطأ فيها هي علامة هاجس المهاجر المرهف الذي يهجس بمصيره ومحاولاته اليائسة لاقامة صلة مرضية مع الاوساط الجديدة. و\"إيمي فوستر\" تقتصر بمعنى ما على مشكلات المنفى، ولعلها قد اقتصرت على ذلك الى درجة لم تتح لها ان تكون واحدة من بين قصص كونراد المشهورة. اليكم، على سبيل المثال، هذا الوصف لآلام شخصيتها المركزية، يانكو غورال، ذلك الفلاح الأوروبي الشرقي الذي تغرق سفينته، في طريقها الى اميركا، فتقذفه الامواج الى الساحل البريطاني: \"إنه لمن العسير حقاً على المرء ان يجد نفسه ضائعاً وغريباً في ركن مجهول من اركان الارض، بلا حول ولا قوة، ومن اصل غامض، دون ان يجد من يفهمه. غير ان احداً من بين المغامرين الذين تحطمت سفنهم وقذفت بهم الامواج في جميع أرجاء العالم النائية، لم يكتب له ان يعاني، كما يبدو لي، ذلك المصير المأساوي الذي عاناه الرجل الذي احكي عنه، ذلك المغامر البريء الذي لفظته الامواج\". (...)

ويقضي المنفيّ معظم حياته في التعويض عن خسارة مربكة بخلق عالم جديد يبسط سلطانه عليه. ولذا ليس من المدهش ان نجد بين المنفيين كثيراً من الروائيين، ولاعبي الشطرنج، والناشطين السياسيين، والمفكرين. فهذه المهن جميعاً لا تتطلب سوى حد ادنى من التوظيف في الأشياء إذ تضع الحركة والمهارة في المقام الأول. غير ان من المنطقي القول ان عالم المنفي الجديد هو عالم غير طبيعي تشبه اللاواقعية التي يتسم بها عالم القص والتخييل. ولقد شدد جورج لوكاش، في نظرية الرواية، على ان الرواية، ذلك الشكل الأدبي الذي يُخلق من لا واقعية الطموح والاستيهام، هي الشكل الخاص ب\"التشرد المتعالي\". ففي حين تصدر الملاحم الكلاسيكية، كما كتب لوكاش، عن ثقافات مستقرة تكون فيها القيم جلية، والهويات راسخة، والحياة ثابتة، فإن الرواية الأوروبية تقوم على اساس تجربة معاكسة تماماً، هي تجربة مجتمع متغير يسعى فيه بطل جوّاب ومحروم من ابناء الطبقة الوسطى، او بطلة، الى بناء عالم جديد يشبه بعض الشيء ذلك الذي خلّفه وراءه، او خلّفته وراءها، الى الأبد. وفي حين لا نجد في الملحمة اي عالم آخر، وإنما إبرام هذا العالم فحسب - حيث يعود اوديسيوس الى ايثاكا بعد سنين من التجوال، وحيث يموت اخيل لأنه لا يستطيع الفرار من قدره المحتوم - فإن الرواية تقوم لأن عوالم اخرى يمكن ان تقوم، وتشكّل بدائل بالنسبة للمضاربين، والجوّابين، والمنفيين البرجوازيين.

ومهما حقق المنفيون من نجاحات، فإنهم يظلون على الدوام اولئك الشذّاذ الذين يشعرون باختلافهم (حتى وهم يستثمرونه في كثير من الأحيان) على انه نوع من اليتم. وكل من هو شريد حقاً إنما يعتبر تلك العادة المتمثلة برؤية الغرابة والجفوة في كل ما هو حديث نوعاً من التصنع... والمنفي، إذ يتشبث باختلافه مثل سلاح سيستخدم بعزيمة لا تلين، إنما يلح بغيرة على حقه او حقها في رفض الانتماء.

وعادة ما يتحول هذا الى ضرب من العناد الذي يصعب تجاهله. فالتصلب، والغلوّ، والإسراف: تلك هي الأساليب المميزة لكونك منفياً، والطرائق التي تتبعها لإجبار العالم على تقبّل رؤيتك، التي تجعلها ابعد عن القبول لأنك لا تريد في الحقيقة ان تكون مقبولة. فهي رؤيتك في النهاية. وبذا فإن الهدوء والسكينة هما آخر الأشياء التي تقترن بأعمال المنفيين. فالفنانون في المنفى من ابعد الناس عن اللطف بلا جدال، وعادة ما يتسلل عنادهم حتى الى أرفع اعمالهم. فرؤية دانتي في الكوميديا الإلهية هي رؤية هائلة القوة من حيث كونيتها وتفاصيلها، غير ان السلام والغبطة اللذين يتحققان في الفردوس لا يزالان يحملان، هما نفساهما، آثاراً من حقد وقسوة الحساب في الجحيم. ومن غير منفي مثل دانتي، المطرود من فلورنسا، يمكن ان يجعل الأبدية مكاناً لتصفية الحسابات القديمة؟

لقد اختار جيمس جويس ان يعيش في المنفى: كيما يعزز موهبته الفنية. (...) بيد ان نجاح جويس كشخص منفيّ يؤكد على اسئلة تمضي الى لبّ الأمور: هل يبلغ المنفى من الشدة والخصوصية ما يجعل كل استخدام له كأداة او وسيلة ضرباً من التسطيح في جوهره؟ كيف أمكن لأدب المنفى ان يتبوأ مكانته كموقع من مواقع التجربة الإنسانية الى جانب ادب المغامرات، أو التربية، او الاكتشاف؟ اهذا هو ذات المنفى الذي يقتل يانكو غورال بالمعنى الحرفيّ ويسفر عن تلك العلاقة الباهظة، والمذلّة للإنسان في الغالب، بين منفى القرن العشرين وقوميته؟ ام انه ضرب حميد بعض الشيء وأقل خطورة من ضروب المنفى؟

يمكن ان نردّ قسطاً وافراً من الاهتمام المعاصر بالمنفى الى ذلك التصور الباهت بعض الشيء والذي يرى ان بمقدور غير المنفيين ان يشاركوا المنفيين منافع المنفى بوصفه موتيفاً من موتيفات الافتداء. والحال، كما ينبغي ان نقرّ، ان ثمة شيئاً من المعقولية والحقيقة في هذه الفكرة. فعلى غرار البحاثة المتجولين في القرون الوسطى او العبيد اليونان المتعلمين في الامبراطورية الرومانية، يُسهم المنفيون - خاصة الاستثنائيين من بينهم - في تنشيط بيئاتهم وإضفاء الحيوية عليها. و\"نحن\" عادة ما نركز على هذا الجانب المستنير من جوانب وجود \"هم\" بيننا، وليس على بؤسهم او مطالبهم. غير اننا إذ ننظر إليهم من المنظور السياسي المحزن المستمد من حالات الاقتلاع الضخمة الحديثة، نجد ان المنفيين الأفراد يدفعوننا الى تبين ذلك المصير المأسوي الذي ينطوي عليه التشرد في عالم هو بالضرورة عالم بلا قلب.

منذ جيل مضى، طرحت سيمون فيل معضلة المنفى بتلك الإحاطة التي لم يسبق لأحد ان توصل إليها. قالت: \"لعل حاجة المرء الى الجذور ان تكون اهم حاجات النفس البشرية وأقلها تبيّناً واعترافاً\". ومن ثم فقد رأت فيل ايضاً ان معظم العلاجات التي تُبذل لمداواة الاقتلاع في هذه الحقبة من الحروب العالمية، وضروب الترحيل، وصنوف الإبادة الجماعية تكاد ان تكون بمثل خطورة ما تبتغي ان تعالجه. ومن بين هذه العلاجات، فإن الدولة - او الدولتية، بصورة ادق - هي واحد من اشدها مكراً، إذ تنزع عبادة الدولة الى استئصال جميع الروابط الإنسانية الأخرى والحلول محلّها. (...)

ويعلم المنفي أن الأوطان، في عالمٍ علماني وعارض، موقتة وعابرة على الدوام. بل ان الحدود والحواجز، التي تسيّجنا بأمان المنطقة المألوفة، يمكن أن تغدو سجوناً ومعازل، وغالباً ما يُدافع عنها وتُحمى بلا مبرر أو ضرورة. أما المنفيون فيعبرون الحدود، ويحطّمون حواجز الفكر والتجربة.

لقد كتب هوغو هذا المقطع الذي يظل محتفظاً بجماله عن سانت فيكتور، وهو راهب سكسوني من القرن الثاني عشر: \"إنه لمصدر عظيم، إذاً، من مصادر الفضيلة لدى العقل المتمرس أن يتعلم في البداية، شيئاً فشيئاً، تغيير نظرته الى الأشياء الظاهرية والعابرة، كيما يتمكن بعدئذٍ من تركها ورائه الى الأبد. فمن يجد وطنه عزيزاً وأثيراً لا يزال غرّاً طرياً\" أما الذي يجد موطنه في كل أرض فقد بلغ القوة\" غير ان المرء لا يبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أجمع أرضاً غريبة. فالنفس الغضة تركز حبها على بقعة واحدةٍ من العالم\" والرجل القوي يشمل بحبّه كل الأماكن\" أما الرجل الكامل فهو الذي يطفئ جذوة الحبّ لديه\".

أما ايريك أورباخ، عالم الأدب العظيم في القرن العشرين، والذي قضى سنوات الحرب منفياً في تركيا، فقد أورد هذا المقطع كمثال لكلّ من يرغب في تخطّي الحدود القومية والاقليمية. فباعتناق مثل هذا الموقف وحسب يمكن للمؤرخ أن يبدأ بفهم التجربة الإنسانية وسجلاتها المكتوبة بما فيها من تنوّعٍ وخصوصية\" وإلاّ لظل أشد التزاماً بضروب الإقصاء وردود الفعل المتحيّزة منه بالحرية التي ترتبط بالمعرفة. ولكن فلنلاحظ ان هوغو قد أوضح مرتين أن \"القوي\" و\"الكامل\" يحقق استقلاله وانفصاله عن طريق العمل من خلال الصلات وضروب الارتباط، وليس عن طريق رفضها. فالنفي يدلُّ ضمنّاً على وجود حب المرء لوطنه الأصلي وارتباطه به\" وما يصح على كل منفيّ ليس فقدان الوطن وحبّه، بل تأصّل هذا الفقدان في وجودهما كليهما بالذات.

فلننظر الى التجارب كما لو أنها على وشك الزوال. فما الذي يرسيها في الواقع؟ ما الذي ستحفظه وتحميه منها؟ ما الذي ستتركه؟ وحدهم أولئك الذين حققوا الاستقلال والانفصال، أولئك الذين يرون أن وطنهم \"عزيز وأثير\" إلا أن ظروفهم تحول تماماً دون استعادة تلك العذوبة والإثرة، وحدهم من تمكن لهم الإجابة عن هذه الأسئلة. (فمثل هؤلاء الأشخاص يجدون أيضاً أنّ من المستحيل نيل الرضا من تلك البدائل التي تزيّنها الأوهام أو العقائد الجامدة).

قد يبدو هذا أشبه بوصفةٍ لعلاج نظرةٍ كئيبةٍ لا سبيل الى التخفيف منها ومعها ضربٌ من الرفض المتجهّم على الدوام لكل حماسة أو بهجة روحية. غير ان الأمر ليس كذلك بالضرورة. فمع انه قد يبدو غريباً أن نتكلم على لذائذ المنفى، إلا أن هنالك بعض الأشياء الإيجابية التي يمكن قولها بشأن قلّة قليلة من ظروفه. فرؤية \"العالم أجمع أرضاً غريبة\" تمكّن من تكوين رؤية أصيلة. وفي حين لا يعرف معظم الناس سوى ثقافة واحدة، وخلفية واحدة، ووطن واحد\" فإن المنفيين يعرفون اثنين على الأقل، وتعددية الرؤية هذه تولّد وعياً بالأبعاد المتزامنة، وعياً هو وعي طباقي، كما يقال في لغة الموسيقى.

فعادات الحياة، أو التعبير، أو النشاط في البيئة الجديدة لا بد أن تجرى، بالنسبة للمنفي، بعكس ما يتذكره عن هذه الأشياء في البيئة الأخرى. وهكذا تكون البيئتان كلتاهما، الجديدة والقديمة، حيّتان، وقائمتان، تقعان معاً على نحوٍ طباقي. والحال، أن ثمة لذّة فريدة في هذا الضرب من الإدراك، خاصةً إذا واكبه لدى المنفيّ وعيٌ بالتجاوزات الطباقية الأخرى التي تحدّ من الأحكام المتزمّتة وتسمو بالتعاطف والتفهّم. كما أن هنالك أيضاً ذلك الإحساس المميز بالإنجاز والتحقق الناجم عن تصرّف المرء كما لو أنّه في وطنه حيثما صدف له أن يكون. بيد أن ذلك يظلّ منطوياً على خطورة: فعادة التظاهر مرهقة ومتلفة للأعصاب على السواء. والمنفى ليس أبداً حالة رضا، أو دعة، أو أمان. المنفى، كما يقول والاس ستيفنس، \"عقل شتاء\" تكون فيه أنفاس الصيف والخريف قريبة بقدر تباشير الربيع لكنّها لا تُطال. ولعل هذه ان تكون طريقة أخرى للقول ان حياة المنفى تسير بحسب روزنامة مختلفة، روزنامة أقلّ فصولاً واستقراراً بالقياس الى الحياة في الوطن. فالمنفى هو حياة تُعاش خارج النظام المعتاد. حياة مترحّلة، طباقية، بلا مركز\" وما إن يألفها الإنسان ويعتاد عليها حتى تتفجّر قواها المُزعوعة من جديد.

إ.س
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04369 seconds with 10 queries