جاءت الإنقاذ متخفية في ثوب العسكر. حينها لم يكن المواطن يحلم بكثير، فقط أن تذهب حكومة المهدي. تلك الديمقراطية التي ولدت ناقصة ومريضة وذهبت إلي حيث ترقد أخواتها . لم تمر عليها شهور حتى أصابها التآكل والتصدُّع ونشط التمرد في جنوب السودان، وتساقطت المدن وأستشري الفساد وأنفلت زمام الأمن. واختطفت أميره الحكيم، ونبش السيد رئيس الوزراء قبر جده الأمام الهادي ليوهم الأنصار أن امامهم مات وهو من سيكون امامهم ولكن لم يكن. إذن كل الأنباء تأتي بالخيبة والفشل، لذا فليحكم العسكر. كغيري من الشباب في تلك الحقبة هللت لرحيل الصادق المهدي الذي أرجع البلاد إلي الوراء، بعد أن علقنا عليه أمال أن يخرج البلاد من مستنقع العسكر والديكتاتوريه. ولكن أننا شعب الآمال المخضرة والغد المشرق والأحلام المخملية، فلم نتذوق للعافية طعما حتى أتانا العسكر من جديد. لم تكشف حكومة العميد البشير عن وجها ، بل أصرت في التخفي بإدخالها لكل رموز الوطن وسياسيه سجن كوبر ومن حالفه الحظ تعدي الحدود وفرّ. ارتعبت الخرطوم من هؤلاء الذين لا لون لهم سوي أنهم من العسكر وقادة مجلسهم عسكري وشهادات ميلادهم ( تسنين) ولكنهم فئة أرادت الخير بنا كما تقول صحفهم ودعاياتهم. لا تهمني السياسة فأنا لم أولد سياسيا ولم يك أبي سياسيا ولم تك أمي بنت سياسي، لذا لم أهتم بمن يحكم بل أهتم كيف يحكم ويراعي مصالح العباد. فجأة أطلت الجبهة الإسلامية القومية برأسها واستلمت مقاليد العسكر وأدارت البلاد وهنا عرف الجميع أنهم خدعوا بلعبة ذكية أدارتها الجبهة بشيوخها ونفذها العسكر بنياشينه وزيه الأخضر. مرت خمس سنوات كأنها القرون، أكلت الأخضر وأحرقت اليابس. أعدم الرجال في الأشهر الحُرم، وهاجر الشباب وأُعلن الجهاد. العالم أجتمع علي محاربة تلك الحكومة ففتح أذرعه ورصد أمواله لمعارضة مأجورة لا همّ لها سوي التسكع في بلاد العرب و العجم والتشهير بحكومة المشير، والمواطن هو الرقعة التي تدار عليها المعركة. ولكن الحكومة كانت أذكي من الغرب ودوله، إذ فتحت خزائن البلاد والعباد وأعطت كل من عارضها جذر ومن لم يعجبه الجذر فالعصا مرفوعة أيضا. في كل هذا الزخم والسجال لم أغير رأي وأترك فكرة الهجرة، لم يكن يستهويني الجذر ولم أك أخاف العصا، ولكن في تلك الأربع العجاف ساعدت بكل ما أتيت من قوة في نفع قريتي التي كنت أعيش فوق ترابها. فتية عاهدنا الله وانفسنا علي أن همنا هو القرية وقبيلتنا هي القرية، وبايعنا أنفسنا أنه لا ضرر ولا ضرار. التحقنا بركب العمل الصيفي في الأجازات، فتلقينا الدعم السخي في تعمير المدارس وحفر أبار المياه وتشجير الساحات وفتح الفصول في الأجازات. لا أخفي عليكم سادتي ، أنها كانت من أجمل سني عمري في بلدي إذ أحسست أن لي قيمة بإدخال البهجة في نفوس أهلنا الغلابة. ولكن الغربة تتزين لي كل مساء وترسل لي المراسيل، فذهبت وتركت كل البلاد خلفي. أخي الصغير يجرني من طرفي ، ونحيب أمي يقطّع أوصالي ورجاء رفاقي يزيد من لوعتي ولكن لست من يرجع في كلامه. حملت صكوكي ونزلت مساءا دمشق الفيحاء. دخلتها عشاءا ونسمات يوليو تحمل معها شذي الياسمين من حاراتها وأزقتها. أحببت تلك البلاد منذ أن وطأت أقدامي أرضها. لم أشعر قط أني أتنفس بعيدا عن بلادي. مطار دمشق الدولي ورحلة الخطوط المصرية القادمة من قاهرة المعز مساء الخميس الواحد والعشرين من الشهر السابع للعام الرابع والتسعون بعد التسعمائة والألف حيث كان الصدفة أنه كان يوم ميلادي قبل ثمانية عشر عاما خلت. كانت رحلة التمني في قبس الدخول إلي مناحي الحياة، ومبتغيات الأماني المترفة بلون السعادة الداكن. لم تكن أرض الشام يوما محط أمالي ولكنها كانت الأمل الذي يوصلني إلي أحلامي وأنا بين حواريها أتجول خمسة أعوام. فسرعان ما تعارفنا وتصالحت فيها مع نفسي قليلا، ولم أترك لها حرية الترف كثيرا. فالحياة دقائق وثواني ولابد أخذ الكتاب بقوة، وكانت أرض الشام القوة التي عبئت بها نفسي وانطلقت أبحث عن الحياة بكل أشكالها وألوانها. وفيها تعرفت علي صديقي ورفيق غربتي( أمين) رد الله غربته وكفاه شر الترحّال. جمعتنا الصداقة والصدق وكنا نتواصى خيرا، لم نجتمع علي شر أبدا، بل كنا مصدر سعادة من حولنا دوما نتفانى في خدمة السودانيون وغيرهم حتى أسسنا شركة للخدمات وأطلقنا عليها (السفير). تخنقني العبرات وتتكسر الكلمات بين مسامات الإحساس عندما أريد أن أكتب عن الفيحاء وحواريها، أهلها ومساجدها، حسانها وأسواقها، كهوفها وتاريخها، غوطتها وسهولها، جامعتها وسياسيوها. بلد يجري التأريخ في شرايينها وتتجدد الحياة فيها ثلاث كل عام. الصيف ونوافذ منازلها المشرعة وعذوبة نبعها وعند الربيع تتفتح أزهارها وتنضج صباياها ويأتي شتاءها ماطرا يغسل كل درن وفجور
|